قبل الحديث عن الصراع الدائر في قطاع غزة، بين الفصائل الفلسطينيّة والجيش الإسرائيلي، لا بُدَّ من تحديد نقطة ارتكاز ننطلق منها في البحث والتحليل.
تحديد نقطة الارتكاز هذه ستتيح لنا دراسة الوضع الراهن والسيناريّوهات المُحتملة على أنحو أفضل، دون خلط عددٍ من المواضيع بعضها مع البعض الآخر.
لماذا حرب السابع من أكتوبر 2023؟
أولاً: من وجهة نظر حماس: مِمَّا لا شك فيه أنَّ القيادة الفلسطينيّة الحاكمة في قطاع غزة – حماس بوصفها القوة الفعليّة المُحرِكة للمسألة الفلسطينيّة في قطاع غزة منذ عام 2005 – قد خططت لهذه الحرب جيداً، وأعددت العدة على نحوٍ جيد. أي أنَّها استعدت للحرب من النواحي العسكريّة، والسياسيّة كافّة، كما وكانت لديها قراءة واقعيّة للنتائج والتبعات بالنسبة لمُستقبل القضية الفلسطينيّة ولسكان غزة، ولمُستقبل حركة حماس عموماً. وعلى هذا الأساس شَنَّتْ حماس الحرب بتاريخ السابع من أكتوبر 2023 بعمليةٍ عسكريّةٍ واسعة قَلَّ نظيرها في تاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي (ولا أقول العربي – الإسرائيلي).
ولا أعتقد أنَّ حماس تفاجأت بردة الفعل الإسرائيليّة، وطريقة شنها للحرب المُضادة. فالثابت أنَّ قطاع غزة من الناحية الجغرافيّة مساحةٌ صغيرةٌ من الأرض يسكنها قرابة 2,2 مليون نسمة، يعانون منذ سنوات من سوء البنية التحتيّة، وحيثُ الاعتماد على المُساعدات القادمة من الخارج؛ أي عدم وجود اقتصادٍ مُنتجٍ خاصٍّ بالقطاع.
بدأت حماس الحرب فعلياً، وشَنَّتْ إسرائيل من جهتها حرباً أخرى مُضادة أودت بحياة الآلاف من المدنيين، وسَوَّتْ أحياء القطاع في بعض مناطقه بالأرض. وهُنا، لا بُدَّ لنا من طرح السؤال الآتي: بماذا كانت تفكر حماس قبل وفي يوم السابع من أكتوبر 2023؟
هُناك بكل تأكيد جانبٌ تاريخيٌّ مهم يتعلق بمراحل تطور الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، والذي يفسر إلى حدٍ ما وصول الصراع إلى ذروته على النحو الذي هو عليه الآن. جاء هذا التصعيد في وقتٍ فقدت فيه حماس قدرتها على الاستمرار في وضعها الذي كانت عليه قبل الحرب، ووجدت نفسها قادرة على شن حربٍ واسعة طويلة الأمد إلى حدٍ ما – أو بالأحرى بالقدر الذي سيسمح به المُجتمع الدولي، والظروف والوقائع على الأرض فيما بعد – بواسطة ترسانتها العسكريّة التي تطورت على نحوٍ ملحوظ مُقارنة بالسنوات الماضيّة، وذلك بمُساعدة حلفائها في المنطقة (إيران، حزب الله وقطر).
عاشت القضية الفلسطينيّة خلال العقود القليلة المُنصرمة حالة من الركود وعدم الاهتمام، في ظل واقعٍ كانت فيه إسرائيل هي المُنتصرة فعلياً. فإسرائيل تستحوذ على أكبر مساحةٍ من الجغرافيّة، في حين تمتلك السلطة الفلسطينيّة مساحة مُحددة متنازعٌ عليها (تنامي المستوطنات الإسرائيليّة في الضفة الغربيّة)، وهي سلطة مسلوبة السيادة فعلياً، إذ أنَّ الجيش الإسرائيلي قادرٌ على دخول مناطق نفوذ السلطة في أي وقت، واعتقال من يشاء، وفرض ما يراه مُناسباً من النواحي الأمنيّة والإداريّة سواءً في القدس الشرقيّة أو في رام الله. بالمقابل تعترف إسرائيل بالسلطة على أنَّها إقليم حكم ذاتي تابع لدولة إسرائيل، تمتثل لشروط اللعبة الجديدة التي وضعتها إسرائيل في معاهدات السلام السابقة. فيما تَحَصَّنت حماس (حركة المقاومة الإسلاميّة في قطاع غزة، وهي من تحكم القطاع منذ العام 2005: وهو تاريخ آخر سباقٍ انتخابي قد جرى في القطاع بشكلٍ فعلي). حماس أو حركة المقاومة الإسلاميّة تأسست وفق أيديولوجيا دينيّة – كما هو واضحٌ من اسمها أيضاً – لتكون بذلك مُختلفة عن منظمة التحرير الفلسطينيّة اختلافاً شبه جذري؛ إذ أنَّ منظمة التحرير كانت وما تزال حركة يساريّة.
في ظل خارطة النفوذ هذه، حيثُ إسرائيل هي المُستفيدة الأكبر ولها من الجغرافيّة والموارد حصة الأسد، وفي ظل تحول منظمة التحرير إلى خيار الحل السلمي، وبالتالي تثبيت حدود سلطات الأمر الواقع، وتدهور حالة قطاع غزة على نحو ٍكبير (سوء البنية التحتيّة، البطالة، الافتقار الشديد إلى الآفاق المستقبليّة، وركود العملية السياسيّة، وتنامي الأصوات المُعارضة، والمُناهضة لسلطة حماس المركزيّة التي اتخذت طابعاً استبداديّاً، وصعوبات جمّة أخرى)، شَنَّتْ حماس حربها على إسرائيل في السابع من أكتوبر.
هُنا، قراءة في فكر من خطط لحرب السابع من أكتوبر، حيثُ وضعت حماس أمامها ثلاث خيارات:
الخيار الأول: لن يكون من السهل – إن لم نقل من المُستحيل – التغلب عسكريّاً على إسرائيل، إلَّا أنَّ مُقارعة جيشها سيكون مُمكناً، وسيواجه الجيش الإسرائيلي مقاومة شديدة حتَّى اللحظات الأخيرة. إسرائيل سترد بقوة، وستقوم باستخدام سلاح الجو والبر والبحر لضرب القطاع وتحصينات كتائب القسّام والفصائل الرديفة. ستحدث كارثة إنسانيّة – نظراً لواقع القطاع فيما يتعلق بالكثافة السكانيّة – الأمر الذي سيدفع المُجتمع الدولي إلى الضغط على إسرائيل لإيقاف الحرب، والجلوس إلى طاولة المفاوضات. سنضغط نحن أيضاً من جهتنا على إسرائيل من خلال ملف الأسرى، وإظهار أنَّنا قادرون على زعزعة أمن إسرائيل في الداخل في أي وقت (من خلال مسلسل الرشقات الصاروخيّة)، وخلط الأوراق الإقليميّة (هجمات الحوثيين، جبهة لبنان بقيادة حزب الله، وزيادة نشاطات إيران)، وبالتالي الحاق الضرر بمصالحها على مُختلف المستويات.
وحين تصل الحرب إلى مرحلةٍ حرجة، وتجد إسرائيل نفسها غير قادرة على خوض الحرب بنفس الحِدّة والوتيرة التي كانت عليها في الأيام الأولى التي تلت الحرب والاجتياح البري، سنفرض شروطنا، وعلى رأسها إنشاء دولة فلسطين.
بهذه الحرب نكون قد أعدنا تدويل القضية الفلسطينيّة من جديد، وتسليط الضوء على ضرورة حَلِّها بطريقةٍ أخرى، من خلال الاستفادة من الحرب الإعلاميّة أيضاً بشكلٍ جيدٍ ومدروس (إظهار مقاتلي القسّام وهم يحملون على أكتافهم قذائف الياسين – المُعَدَّلة عن سلاحٍ روسي مُضادٍ للدروع – لضرب الدبابات والآليات الإسرائيليّة).
الخيار الثاني: ربما لا يحصل ما نريد، ونخسر بالتالي كل شيء في نهاية المطاف، ونتحول من حركة عسكريّة وسياسيّة حاكمة إلى مجموعات مُتمردة متوارية عن الأنظار تُنفِذُ بين الحين والآخر هجمات فرديّة ضيقة النطاق على مناطق تواجد الجيش الإسرائيلي. ربما، يطول أمد الحرب، وتتمكن إسرائيل من تحقيق انتصارٍ عسكري ساحق، وتشكل إدارة مدنيّة للقطاع منزوعة السلاح من الطيف السياسي الفلسطيني المُناهض لحماس.
الخيار الثالث: إن طال أمد الحرب كثيراً، لعدة سنوات على سبيل المثال، وتحول الوضع من حرب هجوميّة وأخرى دفاعيّة إلى حرب استنزاف، وتراجعت بالتالي العمليات العسكريّة واسعة النطاق من كلا الجانبين، وتحول قطاع غزة إلى ساحة حربٍ محدودة الأثر بين الطرفين: أي اقتصار الأمر على بعض المناوشات بين الحين والآخر، فإنَّنا في حماس سنخسر بشكلٍ محدود، وقد لا تُفضي المفاوضات إلى كل ما نريد الحصول عليه، وإنَّما على جزءٍ مما نريد، وهو فعلياً ما كنا نملكه قبل حرب السابع من أكتوبر.
أمّا الآن، فأود مناقشة بعض السيناريوهات من وجهة نظرٍ إسرائيليّة:
السيناريو الأول: لم تتفاجأ إسرائيل – القيادة السياسية بطبيعة الحال – بما حصل في السابع من أكتوبر، وربما توقعت حصول هكذا أمر في أي وقت، وتجهزت للحرب المُضادة بطريقة، وكأن ما حصل جاءها على طبقٍ من ذهب، وعليها التصرف بأقصى سرعة مُمكنة، إذ أنَّ الوقت ليس في صالحها. فهي دائماً ما كانت تريد القضاء على حماس، وتفكيك هياكلها في القطاع، ومنح القطاع فرصة مُماثلة لما حصلت عليه الضفة لإخضاعها، وبالتالي حل المسألة الفلسطينية بشكلٍ نهائي وإلى الأبد.
فلو كانت إسرائيل هي من بدأت الحرب، لتعرضت لانتقادات كبيرة جداً، وربما دفع الأمر بالمُجتمع الدولي إلى إجبار إسرائيل على وقف عملياتها العسكريّة فوراً دون شرط. ولكن، – وهذا ما قصدته بعبارة “على طبقٍ من ذهب” – ما حصل أنَّ حماس هي من هاجمت أولاً، الأمر الذي وضعت إسرائيل من منظور الغرب وأمريكا وبعض الدول الأخرى في وضعية الدفاع. فراحت إسرائيل تتحدث في خطابها الرسمي والإعلامي عن جيش الدفاع الإسرائيلي الذي يدافع عن المدنيين الإسرائيليين، ويسعى لاستعادة الأسرى. لتحقيق هذين الهدفين كان لا بُدَّ من تدمير البنية التحتيّة العسكريّة لحماس بواسطة سلاح الجو، وشن عملية بريّة واسعة لاستعادة الأسرى المتواجدين داخل القطاع.
ما تزال إسرائيل ماضية في هذا الطريق حتَّى لحظة كتابة هذا المقال.
السيناريو الثاني: لم تتوقع إسرائيل أن تكون حرب حماس بهذا التأثير، وبعد أن أنشأت حكومة الحرب الخاصّة بها، وشَنَّتْ الحرب المُضادة فإنَّها أخطأت في تقدير الفترة الزمنيّة التي ستستغرقها الحرب. فحماس وكما يبدو ما تزال قادرة على مواجهة التوغل الإسرائيلي، وإن بحدة أقل. كما ولا يلوح في الأفق القريب أو البعيد أنَّ حماس ستنتهي، وأنَّه بإمكان إسرائيل أن ترى غزة يوماً ما خالية من حماس. فكلما طال أمد الحرب كلما باتت الأمور أكثر تعقيداً بالنسبة لإسرائيل؛ إذ أنَّ إسرائيل غير قادرة على خوض الحرب لسنوات طويلة في مساحة جغرافيّةٍ ضيقة يعيش فيها قرابة مليوني نسمة. كما أنَّ الحرب الإعلاميّة (الحرب البصرية المُتمثلة في انتشار الصور والفيديوهات التي توثق عمليات القسّام، والمأساة الإنسانيّة داخل القطاع) التي تواجهها إسرائيل باتت مُخيفة. أي كلما انتهت الحرب بسرعة كلما كانت الأمور أفضل. بقدر ما أنَّ إطالة أمد الحرب لصالح حماس فإنَّه ليس في صالح إسرائيل.
السيناريو الثالث: حتَّى ولو حصلت حماس على ما تريده، فإنَّها ستكون أضعف بكثير من وضعها قبل حرب السابع من أكتوبر، وبالتالي لا مانع من حصول القطاع على وضعٍ خاص بقيادة حماس. فحماس ستدير مُنطقة مُدمّرة، وستعيش لسنوات وهي تواجه تذمر الناس، وهم يتوجهون لها بالسؤال: لماذا الحرب إذاً، إذ كان الوضع لم يختلف في المُحصلة، غير أنَّنا خسرنا ما كُنّا نملكه أصلاً؟
النتيجة: قد يحصل تطورٌ هام على صعيد القضية الفلسطينيّة، وقد يتم اختزالها بمنح من تعبوا من الحرب والقتال وضعاً جديداً، وطرحه على أنَّه الحل النهائي لقضية الشرق الأوسط، ونهاية اللعبة بالنسبة للطرفين.
كان هذا بالنسبة لتداعيات الحرب على الصعيد الفلسطيني والإسرائيلي. ولكن، كانت هذا الحرب في نفس الوقت سبباً في توسع الصراع في المنطقة. وهُنا من المُمكن طرح السؤال الآتي: هل شَنَّتْ حماس الحرب بإيعازٍ من الخارج، هل كانت هذه الحرب رغبة إيران، ورحبت بها إسرائيل، لأنَّها فرصة ذهبيّة للقضاء على حماس وحزب الله إلى الأبد؟
طبعاً ليس من المُستبعد على الإطلاق أن يدخل حزب الله الحرب بشكلٍ أوسع، وترد إسرائيل بعملية بريّة واسعة في جنوب لبنان.