في ظل الانسداد الحاصل على جبهة الجنوب اللبناني، وفشل الوساطات لإعلان الهدنة في غزة مع اتخاذ بنيامين نتنياهو قرار اجتياح رفح، بدأت تُطرح تساؤلات حول مهمة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين وإمكان استمرارها مع انشغال الأميركيين بالانتخابات الرئاسية المقررة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وإذا كان قد قرر الانكفاء بعد فشل وساطته، ما يعني تخفيف الضغوط على رئيس الحكومة الإسرائيلية الذي يستمر بحربه على غزة ويلوّح بنقلها إلى لبنان، في ظل حديث إسرائيلي عن استعدادات لشن هجوم بري أو توسيع نطاق الحرب في نيسان (أبريل) المقبل ما لم تتوقف عمليات “حزب الله”.
وإذا كان لبنان ومعه الحزب يعتبران هذه التهديدات نوعاً من التهويل، وهو ما عكسه كلام الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله الأخير مستعرضاً إنجازات مساندة غزة، إلا أن الوقائع تشير إلى أن إسرائيل تضع خططاً لاجتياح الجنوب يتولى رسمها كبار الضباط في الجيش، تحاكي حرب غزة، أو توسيع المعركة الحالية التي باتت تدمر أحياء بكاملها في القرى الحدودية.
وتأتي الخطط الإسرائيلية أو سيناريوات الهجوم بالتوازي مع الحرب المتغيّرة التي تشنها إسرائيل عبر الضربات المدمرة في القرى وفي العمق اللبناني، لإحداث مزيد من الاستنزاف وتحويل المناطق الحدودية إلى أرض محروقة وتحقيق أهداف أمنية، بينها في شكل رئيسي عدم العودة إلى ما قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. وما يزيد من صعوبة مهمة هوكشتاين، باعتباره مستشار الرئيس جو بايدن هو الخلاف الأميركي – الإسرائيلي، وتحديداً مع نتنياهو الذي يستغل انشغالات إدارة بايدن في الداخل ويضغط من بوابة الانتخابات الأميركية، الأمر الذي قد يسرّع احتمالات الحرب مع الشروط المتبادلة بين وإسرائيل و”حزب الله” للوصول إلى اتفاق لمعالجة وضع الحدود البرية.
حكومة نتنياهو التي لم تثنها الضغوط الأميركية في ما يتعلق بالهدنة في غزة، مصممة على تهجير الفلسطينيين، وهي تستغل الانشغال الأميركي بالانتخابات لتنفيذ مخططاتها. وهذا الأمر سينعكس حكماً على جبهة الجنوب حيث ستتراجع مساعي واشنطن، بما فيها وساطة هوكشتاين، لتجنيب لبنان الحرب، وقد تتراجع ضغوطها على نتنياهو الذي يسعى لتوسيع نطاق الحرب على لبنان بحيث لا تستطيع الإدارة الأميركية معه وقفها.
تشير الوقائع في ما يتعلق بجبهة الجنوب إلى أن الخطة الإسرائيلية تهدف إلى فرض أمر واقع قد يقيّد وساطة هوكشتاين في المرحلة المقبلة، أي تحقيق هدف المنطقة العازلة بالقوة عبر إفراغ القرى بحيث تصبح عودة النازحين اللبنانيين شبه مستحيلة إلا بشروط انسحاب “حزب الله” التي يرفضها حتى الآن، ما يعني أن الحرب قد تستمر وتتوسع، أقله في منطقة جنوب الليطاني. وتتكشف سياسة نتنياهو وخططه يوماً بعد يوم من غزة إلى لبنان، فبعد فشله في جرّ الإدارة الأميركية لحرب ضد إيران ومنعها من استمرار التخصيب، ها هو اليوم يسعى لجر الأميركيين بطرق مختلفة لتوجيه ضربة إلى “حزب الله” لا يستطيع الأميركيون لجمه، وللقول لسكان المستوطنات إنه يحقق الأمن على الحدود، علماً أن واشنطن ترفض حتى الآن توسيع الحرب في المنطقة أو جرها إلى مواجهة إقليمية لا أحد يعرف نتائجها.
يظهر في المقابل، أن “حزب الله” يتعامل مع الأمر وكأنه يمكن، إذا توقفت الحرب في غزة، العودة إلى المعادلات السابقة، ولهذا السبب يعتبر أن التهديدات الإسرائيلية هي مجرد تهويل، وأن المقاومة قادرة على إلحاق الهزيمة بالاحتلال، فيستمر بربط جبهة الجنوب بغزة، ويرفض الاتفاق جنوباً من دون القطاع، مستسهلاً أنه يمكن العودة إلى المرحلة السابقة، فيما الحرب الإسرائيلية التي تكسر قواعد الاشتباك تدمر قرى الجنوب وترفع شعار عودة مستوطنيها أولاً على الحدود الشمالية. وهذه الوجهة جدد إعلانها نصر الله بالتأكيد أن عمل المقاومة في لبنان وكل جبهاتها سيستمر، داعياً الولايات المتحدة الأميركية إلى الضغط على إسرائيل لوقف الحرب، ومشيراً إلى الخسائر التي يتلقاها الإسرائيليون على الجبهة مع لبنان.
لكن ما لم يتطرق إليه نصر الله هو الاستنزاف الذي يلحق بلبنان أيضاً. إذ إن إسرائيل كسرت قواعد الاشتباك ووسعت عملياتها إلى العمق اللبناني حتى باتت السيادة اللبنانية كلها مستباحة، وهي مؤشرات لحرب إسرائيلية كبرى على لبنان، يعد فرض أمر واقع على الأرض، لا يزال الأمين العام لـ”حزب الله” يرى فيه تهويلاً وهروباً إسرائيلياً من الاعتراف بالخسائر التي يتكبدها، بينما تسعى إسرائيل إلى إطالة أمد عملياتها واستنزاف لبنان.
المفارقة أن نصر الله لم يجب عن التساؤلات اللبنانية عن أفق المعركة وطريقة إدارتها في ظل التصعيد الإسرائيلي وتوسيع حربه، وليس عما فعلته المقاومة في إسناد غزة. فإسرائيل التي نشرت 100 ألف جندي على جبهتها الشمالية استمرت في حربها على غزة، وهي تهدد باجتياح رفح، ولا يفيد الكلام عن “عضّ الأصابع والغلبة والنصر هو لمن يتحمل” بل في النظر إلى ما يمكن فعله لوقف الاستنزاف ما دامت إسرائيل خرقت كل المعادلات بالاستهدافات والاغتيالات والضربات في العمق، وتوسع في الوقت نفسه عملياتها وترفض العودة إلى المعادلات السابقة قبل “طوفان الأقصى”.
التوقعات تشير إلى أن الحرب على الجبهة الجنوبية اللبنانية قد تستمر بأشكال مختلفة، وصولاً إلى حرب مفتوحة إذا بقي الانسداد يحجز إمكان فتح مسار المفاوضات. فالعمليات الإسرائيلية الموسعة يبدو أنها ستستمر طويلاً مع مخاوف من توسيع نطاقها وتفلتها في المرحلة المقبلة. وقد بات الجنوب اللبناني الجبهة الوحيدة المنخرطة في مساندة حماس، بعدما تراجعت عمليات المقاومة في سوريا والعراق، فيما تزداد المخاوف من إمكان انفجار الوضع، لا سيما مع التحذيرات المستمرة للبنان من جهات دولية عدة حول استمرار المواجهات. وهذه التحذيرات جاءت قبل تعثر مسار الهدنة في غزة، إذ إن إسرائيل كانت ستواصل عملياتها العسكرية في لبنان وتوسع نطاقها، وهو ما عكسه كلام هوكشتاين خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت من أن هدنة غزة قد لا تنسحب على لبنان، علماً أن المبعوث الأميركي، كان يقصد بوضوح أن جبهة لبنان مع إسرائيل باتت مفتوحة بما يعني أن لا عودة إلى ما قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وبالتالي باتت الشروط واضحة لوقف الحرب الإسرائيلية بمعزل عن غزة، أي انسحاب “حزب الله” مع أسلحته من جنوب الليطاني.
أما في الوقائع، بغض النظر عن كلام نصر الله، فإن حرب إسرائيل على لبنان تتوسع يوماً بعد يوم عبر التصعيد المتمادي بالقصف والتدمير في القرى الحدودية لمنع الأهالي من العودة إلى منازلهم، وهو ما يعني إطالة أمد الحرب. وحتى الآن لم يقدم هوكشتاين، إجابات للبنان عن مساعيه، وقد تتأخر عودته ما لم تحدث تطورات تسمح بالتأسيس لإطلاق المفاوضات، فيما يرتفع سقف الشروط الإسرائيلية، وتستمر جبهة الجنوب مشتعلة مع هدنة في غزة أو من دونها وتنذر بحرب تدميرية كارثية.
Twitter: @ihaidar62