يبدو أن حروب الممرات لم تضع أوزارها، فهي لم تحقق أهدافها بعد، إذ إن الحروب التي تشهدها منطقتنا من سواحل البحر المتوسط والبحر الأحمر وصولاً إلى منطقة آسيا الوسطى، هي حروب ممرات تجارية وطاقوية هدفها رسم خريطة جيوسياسية جديدة تخدم أهدافاً اقتصادية لقوى إقليمية وأخرى دولية، بات الصراع على الممرات محدد قوى في توجيه سياستها الخارجية.
شمال مياه الخليج
إذا نظرنا إلى منطقة شمال مياه الخليج العربي، نجد حركة متسارعة لتنمية موانئ تلك المنطقة التي تحدها اليابسة، والتي ستحمل عليها ممرات تجارية برية وسكك حديد وخطوط أنابيب طاقة، ولذلك نجد إيران تسارع في تطوير ميناء “الخميني” الذي سيتحول إلى ميناء “الخليج الكبير”.
وفي الجوار يقوم العراق أيضاً بتطوير ميناء “الفاو” ليصبح قادراً على استقبال السفن العملاقة، وفي جانبه تقوم الكويت بتطوير ميناء “مبارك الكبير” لأهداف اقتصادية واستراتيجية، بخاصة أنها اختارت جزيرة بوبيان المتاخمة للحدود العراقية لإقامة مينائها، وهو ما يهدد باندلاع أزمة حدودية وسياسية بين البلدين.
ومن شمال مياه الخليج، يمكن الوصول نحو تركيا أو سوريا أو الأردن، أي البحار الثلاثة الأسود والأبيض والأحمر، ومن ثم مَن سيحدد الصراع، هي القوى الخارجية التي ستحدد أي طريق ستسلكه وأي ميناء ستحتاج الوصول إليه.
وبنظرة تفاؤل، لا إنكار أن هناك إمكاناً لتحقيق التعاون والربط بين ممرات الموانئ الثلاثة، بخاصة أن تلك المنطقة يمكن أن ترتبط بثلاثة بحار؛ لكن التنافس حالياً على مَن سيكون صاحب الشريان الرئيسي، فالممرات الجديدة ستمثل ركيزة في رسم مكانة جيوسياسية لدولها، وهو ما دفع دولة مثل إيران إلى التلويح بالحرب إذا ما وقع أي تغيير عند حدودها الشمالية مع دولتي أذربيجان وأرمينيا.
“طريق التنمية” العراقي
تعيد الزيارة المنتظرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان للعراق (محتملة قبل نهاية نيسان/أبريل)، الحديث مجدداً عن مشروع “طريق التنمية” الذي سيضع العراق على خريطة التجارة العالمية، فهو يهدف إلى ربط مياه العراق المطلة على الخليج بأوروبا عن طريق الوصول إلى تركيا شمالاً، عبر ممرات برية وسكك حديد، وهو ما يمكن أن يدعم الشراكة والتعاون بين دول المنطقة، إذ تشارك في هذا المشروع 10 دول إقليمية، هي: السعودية وتركيا وسوريا والأردن والكويت والبحرين وقطر والإمارات والبحرين وإيران.
لكن العوامل الأمنية والتوازنات السياسية، ستلعب دوراً في عملية المنافسة بين القوى الإقليمية، فتركيا بعلاقاتها المنفتحة على دول المنطقة، بما فيها الخليج وإسرائيل، يمكن أن تصبح الرابح الأكبر وتحقق حلمها بأن تتحول إلى النافذة الأهم للربط بين المنطقة العربية والخليجية وأوروبا.
بل ستستغل مخاوف دول الخليج ومساعيها لتحقيق التوازن الجيوسياسي، وستعمل على تحييد إيران، وذلك من أجل أن يصبح ثقل نقل الطاقة في يدها، سواء من منطقة الخليج جنوباً أم من منطقة آسيا الوسطى والقوقاز شمالاً.
ويبدو أن تركيا تجيد أدوات الضغط لتحقيق مبتغاها، فقبل أن يذهب نائب وزير الخارجية التركي أحمد يلدز إلى بغداد، الثلثاء 12 آذار (مارس)، كانت أنقرة تضغط على بغداد من أجل تصنيف حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) جماعة محظورة، وهو ما يمهد لعملية عسكرية تركية لإنشاء ممر أمني على طول الحدود العراقية والسورية مع تركيا، وذلك بعد ملاحقة الجماعات الكردية عسكرياً.
وقد نجحت تركيا خلال زيارة وفدها الأمني والدبلوماسي بقيادة وزير خارجيتها، هاكان فيدان، الخميس 14 آذار (مارس) في انتزاع قرار من مجلس الأمن القومي العراقي بحظر العمال الكردستاني، واستخدمت أنقرة ورقة “طريق التنمية” لإقناع بغداد بذلك القرار، فقد صرح أردوغان، الاثنين 12 شباط (فبراير)، بأهمية “القضاء على التنظيمات الإرهابية من أجل تنفيذ مشروع طريق التنمية”.
بل حتى في ملف المياه، ومعاناة العراق من شح مائي بسبب السدود التركية على نهر الفرات، فإن أنقرة تستخدم تلك الورقة أيضاً للضغط على بغداد وإدارة الملفات الخلافية معها، بخاصة أن زيارة أردوغان للعراق، يجب أن تكون في إطار الإعلان عن صفقة كبرى، كما اعتادت الدبلوماسية التركية.
وبذلك سيكون مشروع “طريق التنمية” في مقابل تحقيق استراتيجية “صفر مشاكل” التي عجزت تركيا عن تحقيقها منذ إطلاقها إبان عهد وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو. وبداية تحقيق ذلك بالقضاء على الجماعات المسلحة الكردية، فقد صرح أردوغان، الاثنين 4 آذار (مارس)، بأن “هناك استعدادات ستجلب كوابيس جديدة لأولئك الذين يعتقدون أن بإمكانهم تركيع تركيا عبر إقامة كيان إرهابي على حدودها الجنوبية”، في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني.
تنافس مع إيران
اهتمام تركيا بمشروع “طريق التنمية” الذي ينطلق من البصرة العراقية يعد تنافساً قوياً مع إيران التي تسعى إلى إنشاء ممر مواز من البصرة أيضاً نحو سواحل سوريا المطلة على البحر المتوسط أيضاً.
ولذلك، بينما يسعى العراق لاستيراد الغاز من تركمانستان في إطار المقايضة مع إيران، نجد تركيا تخطط مستقبلاً للتحول إلى مركز ترانزيت وتصدير للطاقة، وهو ما يضعها في مهمة تعمل على تحييد إيران عن منابع الطاقة، لا سيما الموجودة في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، وهي منطقة حبيسة، تتطلع إليها القوى الأوروبية.
وإذا نظرنا إلى دوافع التقارب بين تركيا وإسرائيل، فإن جزءاً منها يتعلق بتلك المهمة، ولذلك نجد أكبر مستثمر في صناعة الغاز في تركمانستان، هي شركة “مرهاف” الإسرائيلية. وهذه أحد الأسباب الفنية التي تجعل من إمكان نقل إيران لغاز تركمانستان عملية صعبة ولا تخلو من تعقيدات سياسية.
لكن أيضاً، إذا وجد القطريون والروس – وهما لاعبان مهمان في سوق الغاز – فائدةً من الاستفادة من الأراضي الإيرانية، بخاصة أن في جوارها شبه القارة الهندية المتعطشة للطاقة، فإن ما كشفت عنه طهران على هامش منتدى “أسبوع الطاقة الروسي” في موسكو في تشرين الأول (أكتوبر) 2023، بأنها تخطط لإنشاء مركز للغاز في منطقة عسلوية في محافظة بوشهر المطلة على الخليج، بمشاركة روسيا وتركمانستان وقطر، أمر يمكن تحقيقه وسيفرض معادلة جديدة أمام اللاعب التركي.
عودة إلى “زنغزور”
عندما صرح وزير النقل التركي عبد القادر أورال أوغلو في 11 كانون الثاني (يناير) 2024، بأن العام الجاري سيشهد تركيزاً على العمل لإنجاز ممر “زنغزور” و”طريق التنمية”، فإننا على مشارف عودة لصراع الممرات، إن لم تكن هناك تسوية غير معلنة.

لكن لا يبدو أن تركيا تراجعت عن خطتها فتح طريق لها نحو القوقاز وبحر قزوين عن طريق خلق ممر عبر الحدود الأرمينية المتاخمة لإيران، وذلك حتى تتمكن من المرور مباشرة عبر إقليم “ناختشيفيان” الآذربيجاني، ثم ممر “زنغزور” الأرميني وصولاً إلى أذربيجان وبحر قزوين، والهدف من ذلك، هو نقل الطاقة والتجارة مباشرةً بين تلك المنطقة وأوروبا عبر البوابة التركية، وهو ما ترفضه إيران، إذ تعتبر ذلك تغييراً في الحدود الجيوسياسية بما يهدد مصالحها، ويهدد أيضاً بعزلها عن دول جنوب القوقاز. ولذلك تصر على حل أزمات تلك المنطقة في إطار صيغة 3+3 (إيران وتركيا وروسيا + أرمينيا وأذربيجان وجورجيا)، وهو ما تمت ترجمته عملياً بعد اجتماع تلك الصيغة في طهران في 23 تشرين الأول 2023، ببنائها جسوراً تربط الأراضي الإيرانية بأذربيجان وأرمينيا، لكن يبدو أن هناك قوى تريد تحييد إيران عن تلك المنطقة وكذلك لديها عطش نحو الطاقة القادمة منها.
ولذلك، عندما أعلن رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، تعليق مشاركة بلاده في منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تتزعمها روسيا، في إشارة غضب من حكومته تجاه روسيا التي لم تساند أرمينيا في حربها ضد أذربيجان، فإن ذلك فتح باب المخاوف من اقتراب حكومة يريفان من حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وإن كان هذا صعباً لوجود تركيا عضواً في هذه المنظمة العسكرية ولديها مشاكل مع أرمينيا.
وفضلاً عن إصرار تركيا على تجاوز المرور عبر الأراضي الإيرانية، فإن ممر “زنغزور” يمثل محطة مهمة نحو مشروعها الطوراني الذي يهدف إلى ربط الشعوب الطورانية عبر وحدة ترابية واحدة، وهو ما يعزز من رفض أرمينيا خطط تركيا وأذربيجان، لأن ذلك بمثابة تهديد قومي ينذر بفقدانها أراضيها الجنوبية لمصلحة ذلك المشروع.
أولوية “الممر الأوسط”
وبالنسبة إلى الأوروبيين في الوقت الحالي، فإن الأولوية أمامهم تجاه “الممر الأوسط” (آسيا الوسطى، بحر قزوين، أذربيجان، جورجيا إلى البحر الأسود وتركيا)، الذي يُمكنهم من الوصول إلى حدود الصين براً، وهو ما اتضح خلال منتدى المستثمرين لربط النقل بين الاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى، الذي انعقد في بروكسل في 5 شباط (فبراير) 2024، إذ تعهد المشاركون بتخصيص 10 مليارات يورو لدعم ذلك الممر.
ولا يبدو أن أوروبا التي تواجه معضلة في عبور تجارتها من البحر الأحمر، بسبب ضربات الحوثيين وحرب غزة، أو عبر روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، ستنتظر حتى الانتهاء من الصراع على “زنغزور”، ولذلك هي ركزت على دعم الممر الأوسط، فهي تسارع الوقت أمام تحركات روسيا والصين.
في النهاية، أمام معارضة إيران خطط تركيا، وكذلك مع قلق جورجيا التي تخشى خسارتها مشروع الممر الأوسط، وبجانب أيضاً رغبة أوروبا في دعم مشروعها الإستراتيجي “البوابة العالمية” الذي يهدف إلى منافسة “مبادرة الحزام والطريق” الصينية، وبالإضافة أيضاً للتعقيدات الفنية والقانونية التي يمكن أن تقابل تركيا إذا ما أرادت نقل غاز آسيا الوسطى من خلال مد أنبوب عبر بحر قزوين، فإن تركيا ربما ستستسلم في النهاية لاتفاقيات إيران مع أذربيجان وأرمينيا، للربط بينهما عن طريق ممر “آرس” الذي يمر عبر الأراضي الإيرانية بدلاً من “زنغزور”، وهو ما سيمهد لتوقيع اتفاقية سلام بين باكو ويريفان.