ملخص
مع بدايات حكم الرئيس الأميركي الرابع والثلاثين للولايات المتحدة الأميركية دوايت آيزنهاور، كانت الحرب الباردة بين حلف الناتو من جهة، وحلف وارسو من جهة ثانية، قد انطلقت بالفعل، وفي طريق مواجهتها سوف يفتح آيزنهاور طريقاً لبلاده في تعاطيها مع تيارات سياسية ذات مسحة دينية راديكالية، الأمر الذي سيرتب عليها أكلافاً كثيرة في العقود التالية.

في السادس عشر من نيسان (أبريل) من عام 1953، أي بعد ثلاثة أشهر فقط من توليه منصبه، ألقى الرئيس الأميركي الرابع والثلاثين للولايات المتحدة الأميركية، دوايت آيزنهاور، خطاباً في العاصمة الأميركية واشنطن، شدد فيه على ضرورة التمسك بالسلام والديمقراطية، وتجنب أي نزاع عسكري، بخاصة بعد أن كان العالم قد وضع عنه أوزار الحرب العالمية الثانية، وخبر أكلافها الغالية، وتبعاتها العالية، من غير أي حصاد، سوى الموت والنار والدمار.

في هذا الخطاب بدا وكأن آيزنهاور يقدم رؤية لرئاسته الجديدة، حيث ركز على اختيار الولايات المتحدة وأصدقاؤها من الدول الحرة طريقاً، بينما اختار قادة الاتحاد السوفياتي طريقاً آخر.

هل جاءت هذه العبارة لتوضح قدر التناقض الشديد بين الحديث عن السلام، والاستعداد للحرب؟

يمكن القطع من دون أدنى شك، أنه مع بدايات حكم آيزنهاور، كانت الحرب الباردة بين حلف الناتو من جهة، وحلف وارسو من جهة ثانية، قد انطلقت بالفعل، وفي طريق مواجهتها سوف يفتح آيزنهاور طريقاً للولايات المتحدة في تعاطيها مع تيارات سياسية ذات مسحة دينية راديكالية، الأمر الذي سيكلف البلاد والعباد أكلافاً كثيرة في العقود التالية.

من هو آيزنهاور الجنرال ذو الأربعة نجوم، الذي وجد طريقه إلى البيت الأبيض بعد أحد القياصرة الأميركيين العظام، الرئيس فرانكلين روزفلت، وما هي أهم ملامح رئاسته، ولماذا تبدو هناك تشابكات عريضة بين ولايتيه الانتخابيتين، وبين مجريات أحداث الشرق الأوسط، والكثير من التفاصيل؟

 

في الرابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1890، ولد دوايت دافيد آيزنهاور، الذي سمي تيمناً بمبشر إنجيلي معروف في قرية دانسون في تكساس، كان والده يعمل في مهنة تنظيف المحركات، ومنزلهم بسيط تعوزه الكثير من أبسط وسائل العيش، يعيش فيه مع إخوته الستة.

منذ صغره وجد ميلاً إلى الرياضة، وعلم الرياضيات، في المدرسة الابتدائية، وقد وهبته الحياة قامة طويلة ويدين كبيرتين جداً وعينين زرقاوين ووجهاً جميلاً.

حين تخرج آيزنهاور في المدرسة الثانوية، عمل ستاً وثمانين ساعة في الأسبوع في مصنع الزبدة المحلي، وفاز في امتحانات تنافسية وحصل على توصيات عالية المستوى في أكاديمية وست بوينت العسكرية حيث دخل طالباً مبتدئاً في عام 1911.

في واقع الأمر بدأ آيزنهاور حياته قائداً بالفطرة، يتمتع بذاكرة قوية وورث من والده طبعاً عصبياً أمضى حياته يحاول السيطرة عليه. حتى أن والدته كانت تحاول أن ترسخ فيه مقولة سليمان الحكيم: “حاكم نفسه أثناء الغضب أفضل من حاكم مدينة”، وقد ساعدت هذه الكلمات آيزنهاور على تطوير آرائه الحقيقية. وقال في هذا الصدد “حققت ما حققته في الحياة، عبر تعلمي كيف أخفي أنانيتي وذكائي”.

في عام 1915عين آيزنهاور ملازماً ثانياً، وصحيح أن خريج أكاديمية وست بوينت كان فقيراً إلا أنه كان محبوباً.

تمتع آيزنهاور بقدرات هائلة ومع ذلك لم يكن مدعياً. كما أنه كان يتحلى بجاذبية كبيرة تشد الرجال والنساء على رغم خجله.

في عام 1916 تزوج من فورت سام هيوستن، ابنة رجل الأعمال المليونير الذي يعمل في مجال تعليب اللحوم، الذي سيمنعه لاحقاً من الانضمام لسلاح الجو الأميركي، خوفاً من أن تصبح ابنته أرملة شابة.

عند دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، طُلب إلى آيزنهاور أن ينظم تدريباً لنحو عشرة آلاف جندي يعملون في سلاح الدبابات لدخول الحرب في فرنسا، ولمهارته في التدريب تم إبقاؤه في أميركا.

 

عبر مسيرة ناهزت عقدين من الزمن، عاش فيها آيزنهاور خبرات عسكرية خلّاقة، داخل الولايات المتحدة وخارجها، وبخاصة في الفيليبين، بدا واضحاً أن الرجل في طريقه لمناصب عليا في القيادة العسكرية للبلاد.

على أن ما شهره بنوع خاص، هو رؤيته للقضاء على ألمانيا النازية، حيث اكتسب شهرة وسمعة القائد الأعلى الذي يمكنه أن يقود فريقاً دولياً، يغير الأوضاع ويبدل الطباع على الأرض الأوروبية بنوع خاص.

عين آيزنهاور رئيساً لأركان قوات الجو والبحر والأرض التابعة للحلفاء لتنفيذ “عملية المشعل”، وهي عبارة عن اجتياح الحلفاء لشمال غربي أفريقيا في تشرين الثاني (نوفمبر) 1942.

وعلى رغم عدم ارتياحه في أداء دور قيادي غير بارز، كتب لزوجته من الجزائر على بعد مئات الأميال من المعركة يقول: “كنت أقرأ عن قادة الجيش وأحسدهم على ما كنت أظنه حرية مطلقة في التحرك واتخاذ القرارات”. ويضيف: “يا لها من فكرة… إن حياتي مزيج من السياسة والحرب، فالحرب شنيعة، إلا إنني مدرب عليها، أما السياسة، في المقابل، فكانت حقداً واضحاً وخالصاً، تتطلب ليس وقتاً قيماً فحسب، بل أيضاً طباعاً جيدة، بغية قيادة قضية الحلفاء”.

من جهة ثانية، جعل استسلام سائر قوات ألمانيا والمحور في شمال أفريقيا في الثاني عشر من أيار (مايو) 1942، في تونس من السياسة والحقد يستحقان التضحية، كذلك فإن اجتياحات الحلفاء التالية في صقلية في تموز (يوليو) 1943 وفي الساحل الإيطالي في أيلول (سبتمبر) 1943، أضفت على سمعة آيزنهاور المتنامية رونقاً.

في السابع من كانون الأول (ديسمبر)، وفي خلال الذكرى الثانية لأحداث بيرل هاربور، زار الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، آيزنهاور، وقد كان روزفلت في طريقه إلى القمة التي جمعته مع تشرشل وستالين في طهران، ويومها قال له “حسناً يا آيك (لقب آيزنهاور الشهير)، ستقود عملية أوفرلود”، أي بدء عمليات الاجتياح المقرر لربيع 1944.

في وقت لاحق، سأل جايمس نجل آيزنهاور الرئيس روزفلت لماذا اختار والده عوضاً عن الجنرال جورج مارشال، فأجاب شارحاً: “إن آيزنهاور أفضل سياسي بين أفراد السلك العسكري، فهو قائد بالفطرة يمكنه إقناع الآخرين بالسير معه وهذا ما نحتاج إليه في منصبه أكثر من أي صفة أخرى”.

في كتابه “آيك… حياته وأوقاته”، يصف الكاتب والمؤرخ البريطاني بيرس برندون، آيزنهاور بأنه “رجل عظيم ليس بفضل إنجازاته العسكرية فحسب، بل أيضاً طبيعته المحبة والقريبة إلى القلب واللطيفة والصريحة، فهو ليس مجرد رجل عسكري خشن مثل سائر أفراد السلك العسكري”.

هل كان آيزنهاور على موعد مع التاريخ، في عملية بعينها، أنهت طموحات النازي في امتداد عصر الرايخ الثالث واستمراره لألف عام؟

 

في النصف الأخير من عام 1943 بدا ميزان القوة العسكرية يميل لمصلحة قوات الحلفاء متمثلة بنوع خاص في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والاتحاد السوفياتي والمقاومة الفرنسية بقيادة الجنرال شارل ديغول، على حساب قوات دول المحور، ألمانيا وإيطاليا، وبنوع خاص بعد معركتي ستالينغراد في روسيا، والعلمين غرب مصر.

في تلك المرحلة، بدأت القيادات السياسية لدول الحلفاء تستشعر طول أمد الحرب وما يستدعيه ذلك من تسريع وتيرة الحسم العسكري تفادياً لتعاظم حالة التعامل داخل الرأي العام في أوروبا والولايات المتحدة الذي بدأ يعبر عن امتعاضه من دموية الحرب وكلفتها البشرية الهائلة.

في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 1943، التقى قادة قوى الحلفاء الأساسية الكبرى في قمة ثلاثية بالعاصمة الإيرانية طهران، ناقشوا خلالها مستقبل استراتيجية المواجهة العسكرية مع دول المحور.

هناك قرر المجتمعون فتح جبهة جديدة في غرب أوروبا، وذلك لتحقيق هدفين: امتصاص الإحباط الشعبي من طول أمد الحرب، وثانياً تشتيت جهود ألمانيا لتخفيف الضغط على الجبهة الشرقية التي يقف فيها الجيش السوفياتي وحيداً تقريباً أمام الجيش الألماني.

أسندت قيادة العملية للجنرال آيزنهاور، وعين مساعداً له الجنرال مونتغومري، وبدأ استقدام القوات العسكرية من أميركا وكندا وأستراليا، ومن آسيا ومستعمرات فرنسا في أفريقيا، وحشد الحلفاء في ستة أشهر مليوني جندي و300 ألف دبابة وعربة عسكرية.

بدأ الهجوم الذي سمي “عملية القائد الأعلى”، عند الساعة صفر ليلة السادس من يونيو (حزيران) 1944 متأخراً عن موعده الأصلي بيوم واحد، بسبب سوء الأحوال الجوية، وألقى 156 ألفاً من المظليين على شواطئ الإنزال الستة في إطار المرحلة الأولى من الهجوم التي أطلق عليها “نبتون”.

عند الساعة الرابعة من فجر السادس من يونيو (حزيران) وصلت طلائع القوات المنقولة بحراً، وبدأ الإنزال البحري وسط اشتباكات دامية دار أشهرها على شاطئ “أوماها بيتش”، وقتل فيه أكثر من 2500 جندي أميركي خلال الساعات الأولى، مع العلم بأن الأميركيين خسروا 6000 جندي في اليوم الأول، وهي أفدح خسارة بشرية للحلفاء.

حين انتهى اليوم الأول من عملية النورماندي بإنزال الحلفاء أكثر من 150 ألف عسكري على الشواطئ الفرنسية، بان جلياً قدر الانتصار الباهر الذي حققته قوات الحلفاء، بقيادة الجنرال آيزنهاور، وبدا كذلك واضحاً أن زمن السترة العسكرية بالنسبة للجنرال المنتصر يقارب على الإنتهاء، وبداية مرحلة جديدة من العمل والانتصارات السياسية آتية في الطريق لا محالة، وصولاً إلى البيت الأبيض وهذا ما تحقق بالفعل.

 

في الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1952، وبعد أن قطع واحداً وعشرين ألف ميل في قطار خاص بالحملة الانتخابية، وثلاثين ألف ميل بالطائرة، وبعد أن حافظ على تسمية نيكسون كنائب له، فاز آيزنهاور بسهولة، فقد حصل على 55 في المئة في مواجهة خصمه الديمقراطي ألداي ستيفنسون الذي حصل على 45 في المئة من الأصوات.

دخل آيزنهاور سباق الرئاسة عام 1952 عن الحزب الجمهوري لمواجهة سياسة عدم التدخل التي نادى بها السيناتور روبرت تافت، كما نادى بحملة ضد “الشيوعية وكوريا والفساد”.

كانت أهداف آيزنهاور الرئيسية في منصبه هي الاستمرار بالضغط على الاتحاد السوفياتي وتقليل العجز الفيدرالي، وفي السنة الأولى من رئاسته هدد باستخدام الأسلحة النووية في محاولة لإنهاء الحرب الكورية، أما سياسته التي عرفت بـ”النظرة الجديدة”، الخاصة بالردع النووي، فقد أعطت الأولوية للأسلحة النووية غير المكلفة مع خفض التمويل للقوات العسكرية التقليدية.

عرفت ولاية آيزنهاور الأولى عقبة كبيرة تمثلت في الهجمة الشرسة التي قادها السيناتور الجمهوري جوزيف مكارثي، ضد كل من اشتم أنه يميل للفكر الشيوعي، والذي طارت في زمنه لوائح الاتهامات ضد الفنانين والمفكرين، الكتاب والمبدعين، ودخلت أميركا مرحلة من الخوف المزعج.

غير آيزنهاور نظرته إلى دوره كرئيس للولايات المتحدة وكقيصر بعد رؤيته للشرور التي تولدت عن حملات المكارثية، ومنع السيناتور مكارثي من دخول البيت الأبيض من كل قاعات الاستقبال الحكومية.

وللرد على قرارات الرئيس أعلن جوزيف مكارثي أنه سيترك القائد الجمهوري واتهم الرئيس علناً “بالضعف واللامبالاة” في طرد الشيوعيين، حتى أنه زعم أنه قد ارتكب شخصياً خطأ رهيباً عندما صوت لآيزنهاور في عام 1952 ظناً منه أنه معاد للشيوعية بحزم ورافض لها بعزم.

مع كل هذا لم يتأثر الرئيس البتة، بل بدا أنه اكتسب طاقة إضافية من نزاعه مع مكارثي، حتى أنه قال لـجيم هاغرتي ملحقه الصحافي “إني مسرور لأن الفرصة أتيحت لي. لدي سبب واحد يجعلني أقوم بذلك ليس المحافظة على السلام في العالم فحسب، بل بناء حزب جمهوري تقدمي في هذا البلد. وإن أراد أعضاء اليمين أن يفتحوا الحرب فلهم ذلك، وإن أرادوا ترك الحزب الجمهوري وتأسيس حزب ثالث لا دخل لي بذلك، ولكن قبل نهاية ولايتي إما يعكس الحزب الجمهوري التقدمية، وإما لن أكون جزءاً منه بعد الآن”. أما في ما يتعلق بإمكانية أن يرشح المتشددون للرئاسة شخصاً من اليمين متمسكاً بعقائده من أمثال مكارثي فعلق آيزنهاور بالقول: “سيكون عليهم تغيير فكرهم، فسوف أذهب إلى كل بقعة في البلد وأشن حملة ضدهم وسأحاربهم في الصميم”.

 

هل كان لهذا الرئيس علاقة خاصة بالشرق الأوسط؟ الجواب يأخذنا بشكل مباشر في طريق ما عرف بمبدأ آيزنهاور، أو Eisenhower Doctrine، والذي ضمنه خطبة ألقاها في 5 يناير (كانون الثاني) من عام 1957، ضمن “رسالة خاصة للكونغرس حول الوضع في الشرق الأوسط”.

بحسب مبدأ آيزنهاور فإن بمقدور أي بلد أن يطلب المساعدة الاقتصادية الأميركية، أو العون من القوات المسلحة الأميركية إذا ما تعرضت للتهديد من دولة أخرى، وقد خص آيزنهاور بالذكر في مبدأه، التهديد السوفياتي، بإصداره التزام القوات الأميركية لتأمين وحماية الوحدة الترابية والاستقلال السياسي لمثل تلك الأمم، التي تطلب تلك المساعدة ضد عدوان مسلح صريح من أي أمة تسيطر عليها الشيوعية الدولية.

في هذا السياق يتساءل المؤرخون: هل كانت حرب السويس عام 1956، السبب الرئيس وراء صدور هذا المبدأ من لدن الرئيس الأميركي آيزنهاور؟

غالب الظن أن هذا المبدأ قد صيغ بالفعل رداً على احتمال حرب معممة يخشى منها كنتيجة لمحاولة الاتحاد السوفياتي لاستخدام العدوان الثلاثي كذريعة لدخول مصر.

جاء إنذار آيزنهاور عام 1956 للبريطانيين والفرنسيين والإسرائيليين، ليردعهم عن غزو مصر لا سيما بعد أن أمم جمال عبد الناصر قناة السويس، والمقطوع به أنه فعل ذلك ليس حباً في عيون المصريين، ولكن خوفاً من أن تسعى موسكو لملء الفراغ الذي خلفته الإمبراطورية البريطانية. لقد شعر آيزنهاور أن هناك حاجة لموقف قوي لتحسين الوضع، وعدم ترك مربعات نفوذ للسوفيات، وفي هذا السياق تبدو أن هناك قصة لرجلين مصري وأميركي.

في مذكرات السفير المصري الراحل في واشنطن، عبد الرؤوف الريدي، التي حملت عنوان “رحلة العمر”، يذكر أن هناك فرصة لاحت في الأفق بين مصر والولايات والمتحدة في عهد آيزنهاور وعبد الناصر، فقد أراد الأول أن يضمن نجاح جهوده داخل الأمم المتحدة، لذلك رفض تقديم إمدادات البترول بعد انقطاعه عن إنجلترا وفرنسا بسبب نسف أنابيب البترول وتعطيل مصر للملاحة في قناة السويس، ورفض أيضاً تقديم معونات اقتصادية لإنجلترا بعد أزمة هبوط الأسهم في البورصة وحدوث أزمة اقتصادية كبيرة في المملكة المتحدة.

وبالنسبة للضغط على إسرائيل يقول الريدي، إن خطاباً لآيزنهاور في فبراير (شباط) 1957، حمل معنى تلك الضغوط، التي تمثلت في البدء في دراسة إمكانية عقوبات اقتصادية على إسرائيل وإخضاع التبرعات التي تتلقاها للضرائب ما لم تنسحب من دون شرط.

التساؤل المثير هنا: لماذا لم تكتمل هذه المسيرة التصالحية والتسامحية بين مصر والولايات المتحدة الأميركية؟

الشاهد أن العديد من التحليلات تمضي في اتجاه عدم ثقة نظام ناصر في الأميركيين، وتفضيله النموذج السوفياتي في بناء الدولة المصرية المعاصرة، وهو الأمر الذي تعزز بالفعل لاحقاً حين سحبت الدول الغربية تمويلها لبناء أهم مشروع في عهد ناصر، أي مشروع السد العالي، حيث سارع السوفيات بتقديم عرض التمويل، ما أدخل مصر في شراكة طويلة ومعمقة مع الاتحاد السوفياتي، لم تتوقف إلا حين قام خلفه الرئيس أنور السادات، بطرد الخبراء السوفيات من مصر في يوليو (تموز) من عام 1972، وقبل حرب أكتوبر 1973 بنحو عام.

هل كان آيزنهاور على موعد مع العالمين العربي والإسلامي، موعد سوف يرسي قواعد لواحدة من أخطر الإشكاليات التي ستواجه منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، وأرجاء عديدة من الشرق الآسيوي لعقود طوال مقبلة؟

لاهوت الاحتواء وتيارات إسلاموية

في كتابه الشهير “لعبة الشيطان” لمؤلفه الأميركي روبرت دريفوس الذي كان قريباً جداً من دوائر الأمن الأميركي لفترات طويلة، نقرأ كيف أنه في أواخر صيف عام 1953 قام البيت الأبيض بدور خشبة المسرح للقاء جرى بين الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور وشاب مثير للمتاعب – بحسب وصف دريفوس – ذي ملامح شرق أوسطية. في الصورة التذكارية ذات اللونين الأبيض والأسود التي التقطت بهذه المناسبة، يبدو آيزنهاور في صورة الجد الأصلع، وكان يبلغ من العمر آنذاك ثلاثة وستين عاماً يقف منتصب القامة في رداء رمادي، ويستند بذراعيه وقبضتيه كما لو كان يبرز عضلاته، وإلى يساره وقف شاب مصري ذو بشرة سمراء يرتدي رداء أسود، لحيته مشذبة بعناية وشعره ممشط جيداً ويمسك بيديه حزمة من الأوراق.

لم يكن هذا الشاب سوى سعيد رمضان، صهر حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر في أواخر عشرينات القرن المنصرم.

كيف وصل هذا الشاب إلى البيت الأبيض؟

القصة طويلة، وتدور حول مفهوم أطلق عليه في ذلك الوقت “لاهوت الاحتواء”، وقف وراءه الأخوان دالاس، جون فوستر وزير الخارجية، وأخيه آلان فوستر، مدير الاستخبارات الأميركية.

كان والدهما قساً بروتستانتياً ونشأ في بيئة مليئة بالأجواء الدينية والإيمانية، ذات الميول اليمينية، بحسب التوجه البروتساتنتي التقليدي.

اعتبر جون فوستر دالاس، لاهوتي البيت الأبيض، وكان مرجعه في كتابة خطاباته رسائل القديس بولس. اجتهد جون فوستر في تجنيد هذا المذهب وبقية التوجهات المسيحية الأخرى في حربه ضد الشيوعية والاتحاد السوفياتي.

كتب ذات مرة يقول: “نريد إشاعة مثلنا قبل أن يتمكن طغاة الكرملين من سحق محبة الله، وقد علمنا الرسول بولس أن المال لا قيمة له من غير الإحسان ومراعاة شعور الآخرين”.

 

هل أثرت السن على أداء الرؤساء الأميركيين عبر التاريخ؟
من هنا ولد مفهوم “لاهوت الاحتواء” وفيه بدا جون في موقعه كوزير للخارجية يغازل الدول الإسلامية القريبة من الاتحاد السوفياتي، واعتبر أن الدين الإسلامي أفضل سلاح يمكن أن تعبر على جسوره الأمم الغربية في حربها ضد السوفيات.

لم تكن مخاوف جون فوستر وأخيه آلان دالاس، القابع في مبنى الاستخبارات الأميركية في لانغلي بفيرجينيا، من انتشار الشيوعية فحسب، بل إن مخاوفهما تصاعدت من جراء نشوء وارتقاء القومية العربية، والتي تطالب بنهضة للعرب بعيداً من الشرق والغرب، وعلى هامشهما، وجدت منظمة دول عدم الانحياز.

في خطاب إذاعي له في الخامس من يونيو (حزيران) من عام 1953، قال دالاس: “إن لاهوت الاحتواء يستلزم حلفاء، وليس أفضل من باكستان حليفاً لنا، لأنها أكبر دولة إسلامية تحتل مكانة مرموقة، وهي بحكم إيمانها تقف ضد الشيوعية بالضرورة”.

كان هذا المفهوم هو السبب في دعوة عدد من قادة المؤثرين الإسلامويين حول العالم للقاء آيزنهاور في مكتبه، وبداية مسيرة طويلة من العلاقات الأميركية مع تيارات الإسلام السياسي، لن تتوقف عند حدود الحرب الباردة، بل تتجاوزها إلى محاولة تغيير أنظمة عربية وشرق أوسطية، كما جرى الحال في العالم العربي، بدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

والشاهد أن الحديث عن آيزنهاور، يتطلب نوعاً من التفصيل عن علاقة الرجل بالمؤسسة العسكرية الأميركية، حيث كان صاحب الصوت الأعلى في التحذير من سطوة المؤسسة العسكرية، ومن تبعات الهيمنة المتعلقة بالمجمع الصناعي العسكري.

حذر آيزنهاور وبعمق من المخاوف التي تلف الديمقراطية الأميركية، وكيف لها أن تتأثر بالماورائيات التي تطلق الحروب حول العالم، ولهذا يعتبر الديمقراطيون الحقيقيون، أن آيزنهاور لم يكن مجرد قائد عسكري وجنرال من فئة الخمسة نجوم، ولكنه كان سياسياً من طراز رفيع، يفتقدونه بنوع خاص في الآونة الأخيرة حيث حرب كونية جديدة تكاد تخيم على سماوات عالمنا المعاصر.

 

قد فاتتك قراءة