“رمادية هي كلّ نظرية، يا صديقي العزيز،
أما شجرة الحياة الذهبية فخضراء”.
(غوته، مسرحية “فاوست”، الفصل الأول)
في تفسير خياره بتقديم “نقد العقل المحض” بدلًا عن نظام فلسفي تأكيديّ، أشار كانط إلى أن عصره كان “بدرجة استثنائية، عصر النقد” (1). لكن الكثير تغيّر منذ ذلك الحين. ويمكن لعصرنا بدلًا عن ذلك أن يوصف بأنه عصر القصص. لم يعد الحديث عن علاقات الإنتاج أو الأيديولوجيا شيئًا عصريًّا بالنسبة إلى التقدميين؛ هذا متروك للجماعة المتضائلة من الماركسيين عتيقيّ الطراز. بدلًا من ذلك، حُثَّ التقدميون على “تغيير السردية”، على سرد قصص عن العالم تلهم الأفراد بأن يتصرفوا على نحو مختلف. في بنية اجتماعية مفتتة، قد تبدو هذه استراتيجية معقولة؛ الطريقة الوحيدة بالفعل لجمع الناس في قضية مشتركة، لأن السرد كما يبدو يربط الشخصي والسياسي معًا كما لا يفعل أيّ شيء آخر. مع هذا، تحتاج تلك الإمكانية إلى نقد، لأنها تستند إلى الافتراض غير المثبَت القائل بأننا لسنا رواة قصة بحكم العادة فحسب، بل نحن مخلوقات مصنوعة من القصص.
ليس ثمة تلخيصٌ لهذا الاعتقاد شبه العالمي أفضل من موجز غالين ستراوسن لمقالته “ضد السرد” الذي يصف فيه “مزعمين رائجين”: الأول وصفيّ، أطروحة تجريبية عن طبيعة التجربة البشرية العادية: “كلّ منّا يبني ‘سردية’ ويعيشها… هذه السردية هي نحن، هي هويتنا” (أوليفر ساكس)؛ “الذات قصة تعاد كتابتها على الدوام… وفي النهاية، نصبح نحن السرديات السيرية الذاتية التي ‘نروي عن’ حيواتنا بواسطتها” (جيري برونر)؛ “نحن جميعًا روائيون موهوبون… إننا نحاول أن نجعل كلّ المواد التي لدينا تندمج في قصة واحدة جيدة. وتلك القصة هي سيرتنا الذاتية. الشخصية التخييلية الرئيسية… لتلك السيرة الذاتية هي نحن أنفسنا” (دان دينيت).
المزعم الثاني أخلاقي معياري: يجب علينا أن نعيش حيواتنا على نحو سردي، أو كقصة؛ “من الشروط الأساسية لفهم أنفسنا أن نستوعب حيواتنا ضمن سردية” وأن يكون لدينا فهم عن حيواتنا بوصفها “قصة تتكشّف” (تشارلز تايلور). الشخص لا “يخلق هويته إلا من خلال تشكيل سردية سيرية ذاتية- قصة عن حياته”، ويجب أن يكون في حوزته “سردية كاملة وواضحة عن حياته لكي يتطور كشخص تطورًا كاملًا” (ماريا شيتكمان) (2).
“تشارلز تايلور: “من الشروط الأساسية لفهم أنفسنا أن نستوعب حيواتنا ضمن سردية” وأن يكون لدينا فهم عن حيواتنا بوصفها “قصة تتكشّف””
كانت مناقشة ستراوسن في حد ذاتها تجريبية في المقام الأول؛ لقد أنكر المزعم العالموي للنظريات السردية، ودعا نفسه “عرضيًّا”، كما اعتبر أن سيطرة النظرية السردية متأثرةٌ بالموضة الفكرية والميل الشخصي (3). مع ذلك، كان ستراوسن يسبح عكس التيار؛ السردية من المسلّمات تقريبًا هذه الأيام. قبل بضعة أسابيع فحسب، ظهرت لي فجأة على صفحتي في الإنترنت مقابلة مع الفيلسوف كوستيكا براداتان، وفيها قرأت: “أبدأ من الافتراض القائل بأن المعنى سرديّ في طبيعته… بالفعل، نجد أن حياتنا جديرة بالعيش لدرجة أنه بوسعنا نسج سردية تكون فيها كلّ – أو على الأقل معظم- حقائقِ سيرة حياتنا قابلة لأن تُربط ببعضها على نحو معقول باتباع نظام داخلي معين”.
يبدو إذًا أننا عالقون مع السرد، لكننا أيضًا عالقون مع الصراعات، لأن تكاثر القصص لا يؤدي إلى حديقة من السرديات المتعايشة بسعادة، بل إلى سباق بين الاختلافات. تلقيّ فيلم كريستوفر نولان “أوبنهايمر” قد يصلح كمثال هنا. يمزج الفيلم بين قصتين، يربطهما إحساسُ أوبنهايمر بالحصانة أو الامتياز وفشله في أن يدرك بعمق كافٍ العوالمَ التي كان يصنعها، لنفسه وللعالم على وجه العموم. لكنّ عددًا كبيرًا من النقاد أراد المزيد. بعضهم قال إن نولان فشل في احترام معاناة سكان هيروشيما وناغازاكي أو الأميركيين القاطنين باتجاه الريح من موقع ترينيتي، آخرون ناقشوا أنه أغفل حقيقة أن لوس ألاموس كانت أرضًا للسكان الأميركيين الأصليين، وآخرون تذمروا من أنه لم يعط إلا القليل من الاهتمام للنساء في حياة شخصيته الرئيسية. تشكّل هذه النقاط متطلبات لا يستطيع أي عمل فني أن يستوفيها. فكل قصة هي قصة جزئية، وسرد قصة ما يعني استبعاد البقية، تمامًا مثلما تستبعد كل صورة كلَّ شيء يقع خارج الإطار. غير أن هذا ليس سببًا للتوقف عن قصّ تلك القصص.
بوصفه مسرحيًا ماهرًا، كان شيلر (يمين) أكثر وعيًا من فيشته بالطرق التي تؤثر بها هذه البنى على حيوات البشر وتفاعلاتهم
لكن، كما قد تشير شدّة هذه الانتقادات، سيكون ثمة الكثير على المحك عندما يُوكل إلى السردية مهمة إضفاء المعنى. لا يكفي أن تكون هنالك قصص عن الشخص ذاته وعن عالمه. إذا كان معنى حيواتنا مرتبطًا بسردية سيرية ذاتية، فإن أي تلعثم، أي حذف أو صمت، أي فجوة في بنية السردية، سيشكّل خطرًا وجوديًا. إن على قصصنا أن تكون صحيحة، ويجب أن تُمنح المصداقية من قبل المحيطين بنا، أولئك الذين لا يمكن لقصصهم أن تتجاهل أو – الأسوأ من ذلك- تناقض قصتنا. عالم القصص هو حرب كل قصة ضد بقية القصص، وبدائل هذه الفوضى تبدو مقصورة على تحالفات عرضية مع أفراد تصادف أن تتوافق قصصهم مع قصصنا في نقطة أو أكثر، أو استسلام خنوع للقصّ الشعبوي للحكاية.
من منظور تاريخي، هذه تطورات حديثة للغاية، لكنها حُلِّلت بوضوح لافت للنظر منذ حوالي 230 سنة تقريبًا من قبل الكاتب المسرحي، الشاعر، والفيلسوف فريدريك شيلر. هوى نجم شيلر خارج العالم المتحدث بالألمانية، لكنه في القرن التاسع عشر كان يُعتبر من العمالقة؛ لا يزال ثمة قرية باسم شيلر بارك في مسقط رأسي روتشستر، نيويورك، كما أن فيردي بنى على مسرحيات شيلر عددًا من أعمال الأوبرا يفوق ما بناه على مسرحيات أي شخص آخر، بمن فيهم شكسبير، وبالطبع اختار بيتهوفن “أنشودة الفرح” لشيلر كنص لخاتمة سمفونيته التاسعة.
كان شيلر الفيلسوف دائمًا أقل شهرة. وقد حاول فريدريك بايزر أن يثبت أن شيلر كفيلسوف شخصية هامة إن لم تكن رئيسية، لكن يبدو أن هذا المسعى كان في غير محله (4). كان تركيز بايزر على عمل شيلر “رسائل في التربية الجمالية للإنسان” (1975)، عندما كان شيلر يُربط بفيشته، وكان ذلك العمل يتضرر كثيرًا من المقارنة. شكّل كلا الصديقين عملهما على هيئة عملية فصل عنيف وعودة نحو الوحدة، لكن فيشته اعتبر هذا عنصرًا أساسيًا في الوعي الذاتي في حين أن شيلر، عكس ذلك، كتبه على شكل تاريخ، متخيلًا أثينا بريكليس بوصفها زمن تناغم طبيعي، ومناقِشًا على طريقة روسو أن “الحضارة في حد ذاتها هي من أصابت الإنسان الحديث بهذا الجرح ( أي العقل كليّ التقسيم)” (5). ومناقشته هذه غير معقولة تاريخيًا وضعيفة فلسفيًا.
لكن، بوسع حتى الفلاسفة غير الهامين أن يقدموا وجهات نظر هامة. فإذا لم يكن بوسع شيلر أن يضاهي تشدد فيشته أو يسبر الأعماق المضطربة لعلم المعرفة (Wissenschaftslehre) عند فيشته، فإنه أدرك البنى العميقة للوعي الذاتي التي تجعل السردية مركزية للغاية، لا سيما الانقسام بين الذات والعالم. وبوصفه مسرحيًا ماهرًا، كان شيلر أكثر وعيًا من فيشته بالطرق التي تؤثر بها هذه البنى على حيوات البشر وتفاعلاتهم. وهذه إحدى ثيمات آخر مقالاته الفلسفية: “عن الشعر الساذج والشعر الحسّاس”.
قد نفترض، من العنوان، أن شيلر كان يكتب عن الأشعار في بطاقات المعايدة، قبل وجودها. لكنه بالطبع لم يكن يفعل ذلك، ولم يستخدم كلمات “ساذج” و”حساس” كتعابير تقييميّة. أشارت الكلمتان إلى نوعين مختلفين من الشعر، وبالتالي، نوعين مختلفين من القص. “الشاعر… إما يكون هو الطبيعة أو سيسعى إليها. يشكّل الأول الشاعر الساذج، والثاني الشاعر الحساس”(6).
“المسيحية واجهت المؤمنين بغموض العناية الإلهية، وبالتالي، ألغازَ حيواتهم وأقدارهم الفردية. والمطلب الفرداني واللاديني بأن نصنع قصة مانحة للمعنى لأنفسنا ليس أبدًا تطويرًا، إنه يفرض حملًا هائلًا علينا جميعًا ويعمينا عن المصدر الخارجي والاعتباطي غالبًا لـ”المعاني” التي توصلها سردياتنا”
الشعر الساذج موضوعي نوعًا ما؛ يحاول الشاعر إظهار عالم الطبيعة الموحد والتعبيرَ الطبيعي الذي يجد نفسه فيه. الشعر الحسّاس داخليّ، انعكاسُ محاولة الشاعر الوصولَ إلى وحدة حطمتْها الثقافة. “التوافق بين شعوره وتفكيره، وهو شيء حدث فعلًا في الشرط الأصلي، لا يوجد الآن إلا بشكل مثالي. ولم يعد موجودًا في داخله، بل خارجه، كفكرة يجب أن تتحقق، ولم تعد واحدة من حقائق حياته” (7).
يمكن أن يطبَّق تمييز شيلر هذا على أي شكل من أشكال السرد أو النتاج الأدبي. إنه يشكّل أساس “ندبة أوديسيوس”، الفصل الأول المشهور من كتاب “محاكاة” لآيريش أورباخ الذي يقارن فيه بين هوميروس -النموذج الأولي للشاعر الساذج- وقصة كاتب سفر التكوين عن تقييد إسحاق:
في الناحية الأولى، الظواهر مُبرزة، موضحة على نحو متماثل، في زمان محدد ومكان محدد، وهي مترابطة فيما بينها من دون فجوات، ودائمًا في المقدمة؛ الأفكار والمشاعر معبَّر عنها بالكامل؛ الأحداث تجري بدون عجلة ومع القليل جدًا من التشويق. في الناحية الأخرى، لا يتم إبراز إلا ما هو ضروري من الظواهر لهدف السردية، ويُترك كل ما تبقى طيّ الغموض؛ يتم توكيد النقاط الحاسمة من السردية وحدها، أما ما يقع بينها فلا وجود له؛ الزمان والمكان غير محددين وفي حاجة إلى التأويل؛ الأفكار والمشاعر تظل بلا تعبير، وتستوحى فحسب من الصمت ومن الأحاديث المجزأة؛ الكلّ، الذي يتخلله تشويق لا ينقطع والموجه نحو هدف واحد (وبذلك نحو مزيد من الوحدة)، يبقى غامضًا ومنطويًا على خلفية ما (8).
النقطة الجوهرية هي ذاتها. الوحدة عند هوميروس مكشوفة، موجودة في الأخذ والعطاء لحياة مشتركة بين البشر والآلهة، وهي تتضح عبر كل تفصيل من حاضر الملاحم الأبدي. أما وحدة الكتاب المقدس فمخبأة، وحياة إبراهيم الداخلية تنشأ من حركته حول، ونحو، المعبود المتعذر تصوره حرفيًا والذي منه ينبع كل شيء وإليه كل شيء يُفضي.
بوسعنا تمضية الوقت مع القصص الساذجة، لكنْ لتلبية مطالب فرضية السرد علينا أن نلجأ إلى القصص الحساسة. مع ذلك، كل من السمة الداخلية للقصص الحساسة وقدرتها على جعل الأشياء ذات معنى مستمدتان من علاقتها بشيء خارجي ويتجاوز بالفعل التجربة الملموسة. بوسعها أن تقترح الارتباطات التي توحّد الشخصيات والأحداث، لكن التماسك وحده ليس كافيًا؛ كما قال فتغنشتاين في كتابه “التراكتاتوس”: “معنى العالم يجب أن يقع خارج العالم”(9). هذه مسألة منطق وليست مسألة لاهوت. ومن دون شيء وراء تدفق الأحداث سيبدو أنها ليست أكثر من شيء لعين تلو آخر. أن نقول، مع براداتان، أن المعنى “سردي في طبيعته” يعني أن نخلط بين شكل التعبير والفكرة التي يتم التعبير عنها. والسرديات لا تملك تلك السلطة إلا عندما تفترض أو تمثّل التزامًا سابقًا بغايات أو قيم معينة، سواء أكانت ظاهرة أو مُضمرة. عليها أن تتجاوز نفسها لكي يكون لها أساس ولأجل تحقيق العالمية، وصولًا إلى ما دعاه شيلر “المثالي” وما اعتبره فيشته النشاط المتنامي لمطلق مجهول. هذا أحد أسباب وجود المطلب المستحيل بأن تخبرنا أفلام مثل أوبنهايمر كلَّ شيء؛ وراء كل سردية حساسة ثمة توق للكلي. وهذا هو السبب أيضًا في أننا قد ننجرح عندما لا يمنح الآخرون المصداقيةَ لقصصنا، لأن هذا يعني أننا لسنا، في النتيجة، على اتصال مع الوحدة الخفية للأشياء.
قد يكون طموح الشعر الحساس والقص الحساس أعلى من طموح النوع الساذج، لكن حالات فشلهما تكون أعمق. يطوّر شيلر هذه الثيمة على النحو الأكمل عندما يستبعد “الطبيعة الشعرية” لنوعي الشعر ويتناولهما بوصفهما موقفي الواقعية والمثالية. وهو يتسامح على مضض مع الواقعي الذي لا ينظر بعيدًا أو في العمق إنما يأخذ الأشياء على ما تبدو عليه وبوسعه أن يُعطي كلًا منها حقها. الحياة من دون المثالي هي على الأقل مدعومة بقوانين الطبيعة، لذلك حتى “الإنسان العادي” “ليس بدون أهمية تمامًا” (10). مع هذا، المثالي في سعيه لما يجب أن يكون عليه الشيء، يمكن أن يغيب عن باله ما هو ذلك الشيء حقًا، وذلك الفشل لا يؤدي إلى فن سيء، خواء، إبهام فحسب، بل كذلك إلى قساوة قلب، تعصب وما هو أسوأ من ذلك.
قال فتغنشتاين في كتابه “التراكتاتوس”: “معنى العالم يجب أن يقع خارج العالم”
المثالي “على خلاف مع نفسه؛ ليس بوسع أيّ من معرفته أو تصرفاته أن يرضيانه. ما يطالب به نفسه لا محدود، لكن كل ما ينجزه محدود”. بنتيجة ذلك، “هو مستعد لأن يتصالح مع الشيء المفرط والشنيع، إذا أثبت ذلك الشيء إمكانيته العظيمة” (11). إن حماستنا للنظام نهمة لا تشبع، ونحن ميالون جدًا لأن نتمسك بأي نتيجة معقولة. بالتالي، المثالية التي تخلط بين الجزء والكل خطيرة، والمثالية المفصولة عن المثالي أكثر سوءًا. تفسح مثل تلك الذاتية المحضة المجالَ أمام “مثالية زائفة” “مرعبة”؛ إفساد طبيعة لا محدودة هو “سقوط لا نهائي إلى عمق لا يسبر غوره” (12).
مع هذا، “مثاليُّ” شيلر معرّض للخطر كلما قال لنفسه إنه واصل مشروعه حتى خاتمته المستحيلة. في سعيه لتحقيق الوَحْدة والدلالة “يوضح المثالي من خلال تصرفات فردية عوزَ الطبيعة البشرية” (13). والتأكيد على أن هذا العوز قد تم إشباعه هو وهم، ووهم خطير فوق ذلك؛ إنه الشرط الخاسر لصفقة فاوست مع مفستوفيليس، التجاؤنا إلى وهمِ تحقّق. إن حيواتنا أغنى وأكثر امتلاء مع كلّ لحظة ممّا يمكن لأي قصة استيعابه، وطالما نحن على قيد الحياة ليس بوسعنا أن نراها كاملة وكلية. لذلك، على كل سردية سيرية ذاتية مكتملة أن تجمّدنا في مكاننا وتحيلنا إلى عملية بروكرستية تحاول إعطاء شكل لشيء غير قابل للإدراك. أن نتماهى مع أي قصة بوسعنا أن نرويها عن أنفسنا هو في صميمه فعلُ عنف.
لكن، مشاكل الفرع “المعياري، الأخلاقي” من فرضية السرد أكثر خطورة. القصص التي تنتمي للنوع الحساس لا يمكن فهمها بمعزل عن الالتزامات غير المعلنة إنما الضرورية التي تعطي لكل منها وحدتها وقوتها المفحِمة. صراع القصص بالتالي هو ممثل لصراع الولاءات أو الافتراضات التي هي غالبًا لا واعية أو ليست حاضرة إلا على نحو مبهم في تفكيرنا. مع ذلك، قوة هذه الافتراضات تأتي من مزعمها بالعالمية، وعندما تكون في الحقيقة جزئية أو حتى أيديولوجيّة فإن هذا الصراع، أيضًا، يتجه نحو العنف، إذ نهاجم أي تهديد للأسس غير المعلنة لقصصنا الهشة، الواهمة في آخر المطاف.
من الواضح أننا عاجزون عن الكفّ عن سرد القصص، لكلّ من أنفسنا والآخرين، ولن أقترح أن نحاول فعل ذلك. مع هذا، لا يجب علينا أن ننسى أن كل القصص مرحلية وكلها يجب أن تُترَك وراءنا. المسيحية على الأقل واجهت المؤمنين بغموض العناية الإلهية، وبالتالي، ألغازَ حيواتهم وأقدارهم الفردية. والمطلب الفرداني واللاديني بأن نصنع قصة مانحة للمعنى لأنفسنا ليس أبدًا تطويرًا، إنه يفرض حملًا هائلًا علينا جميعًا ويعمينا عن المصدر الخارجي والاعتباطي غالبًا لـ”المعاني” التي توصلها سردياتنا، كما أنه يساعد على إبهام جذور الشقاق والنزاع الاجتماعيين. بالتالي، في حيواتنا الشخصية، لا يترك لنا هذا سوى احتمالين: أن “ننجح” في محاصرةِ تعدديةِ العيش متقزحة الألوان ضمن أحادية لون قصة أو أن نفشل ونصبح مسكونين بإحساس بالعجز. ومن الصعب القول أي من هذين هو الأسوأ.
لا يعني هذا أنه لا توجد سبل للخروج من هذه المعضلة. فنحن لسنا مجبرين على الاختيار بين أن نستمر بالحلم عبر حاضر أبدي أو أن نسجن أنفسنا ضمن سردية مقدسة أو لا دينية؛ بوسعنا أن نعيش بالقصص، لكن ليس علينا أن نموت بها. لكن أي بديل يتطلب طرقًا أخرى لاستيعاب التجربة وتنظيمها وإعادة نظر بفكرة “معنى الحياة” ذاتها. غير أن مثل تلك المواضيع يجب أن تنتظر مقالة أخرى.
مراجع:
(1): إيمانويل كانط، “نقد العقل المحض”:
Immanuel Kant, Critique of Pure Reason, tr. Smith (London: Macmillan & Co., 1933), p. 9, fn. a, A xii.