قبل أكثر من ثلاثين عاماً استضافت النروج أول مفاوضات مباشرة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، لتنتهي بالتوقيع في واشنطن على ما بات يُعرف باتفاق أوسلو.
وكان الهدف من هذا الاتفاق إقامة دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب عام 1967 وتشمل الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية. ومعاهدة أوسلو يعرّف عنها رسمياً على أنها “إعلان مبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي”.
ومنذ ذلك الوقت حصلت تغيرات عدة على أرض الواقع، ولا سيما في الضفة الغربية حيث عمدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة الى زيادة وتيرة بناء المستوطنات حتى باتت تقدر أعداد المستوطنين بنحو 900 ألف. وكل المفاوضات في السنوات الماضية لم تفلح في التوصل الى إيجاد حيّز عمليّ لتطبيق مبادئ أوسلو، لتنهار بعد ذلك آخر جولة مفاوضات قبل عقد من الزمن.
وبالتوازي مع التدمير الشامل والحرب المتواصلة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة حالياً، تظهر الصورة في الضفة الغربية قاتمة، مداهمات مستمرة وغارات بالمسيّرات تستهدف مدن الضفة ومخيماتها وبلداتها، مع ما يرافق ذلك من اعتداءات المستوطنين.
والمسار الإسرائيلي هذا، لا ينفصل عن ممارسات حكومة بنيامين نتنياهو الرافضة كلياً فكرة إقامة دولة فلسطينية، وهو قوّض في سني حكمه مساعي الحلّ المختلفة، وعلى رأسها مبادرة السلام العربية القائمة على مبدأ الأرض مقابل السلام.
كلّ هذا يأخذنا الى البحث في أهمية الاعترافات الأوروبية بالدولة الفلسطينية، وهنا لا يبدو أن السلطة الفلسطينية تملّكتها أحلام اليقظة. هي رسالة “رمزية” كما وصفها يان إيغلاند، أحد أعضاء الفريق الدبلوماسي النروجي الذي ساعد في التوسط للوصول إلى اتفاقية أوسلو، وقال إنها “رسالة إلى إسرائيل مفادها أن احتلال الأراضي الفلسطينية يجب أن ينتهي”.
وبالوقائع الراهنة، يمثّل اعتراف الدول الأوروبية الثلاث، إسبانيا وأيرلندا والنروج، بالدولة الفلسطينية خطوة إضافية على طريق العزلة الدولية لإسرائيل، التي زادت بشكل حاد منذ حربها التدميريّة على غزة.
تحذير فلسطيني من انهيار السلطة
لكن في المقابل، يقول مستشار الرئيس الفلسطيني للشؤون الخارجية رياض المالكي: “لسنا متفائلين ولا نقول إن الأمور ذاهبة نحو الإيجابية، إسرائيل مستمرة في الإبادة، وعلى الرغم من الاعترافات الدولية سوف تستمر بذلك. والاجراءات التي اتخذها وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بوقف التعامل مع المصارف الفلسطينية وعدم دفع الأموال للسلطة الفلسطينية، هي تطورات سلبية”.
وفي حديث الى “النهار” حذّر وزير الخارجية الفلسطيني السابق من أن “الوضع المالي صعب، والسلطة غير قادرة على دفع الرواتب وهذا سيؤدي إلى تسريع إمكان انهيارها”.
وعن الصورة القاتمة في الضفة، يشير المالكي الى أن الأمور “تزداد قتامة، فنحن لا نرى أكثر من بعض البيانات الداعمة، لكن حقيقة الموقف أننا بحاجة إلى قرارات جريئة، ونحن طالبنا الدول العربية في قمّة المنامة بإعادة تقييم علاقاتها بإسرائيل، لكن هذا الأمر يبقى مسألة سيادية لكل دولة”.
وفي هذا السياق، قال المدير العام السابق في وزارة الخارجية الإسرائيلية ألون ليل، وهو من منتقدي حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إن الخطوة التي اتخذتها الدول الثلاث قد يكون لها تأثير كبير على الرأي العام الإسرائيلي.
وأضاف لوكالة “رويترز” أن العمل المشترك والمساواة بين إسرائيل وفلسطين على الساحة الدولية يمثلان “كابوساً للقيادة الإسرائيلية الحالية”.
والرهان الفلسطيني هنا على هذا “الكابوس”، فهذا الاعتراف الثلاثي من شأنه أن يجلب معه لاحقاً دولاً أخرى من ضمن الاتحاد الأوروبي، و”أهمية ما يحدث أنه كسر التابو داخل القارة الأوروبية، وهي كانت داعمة لإسرائيل وهذه المسألة انحسرت الآن، وبات هناك تحوّل حقيقي داخل الاتحاد الأوروبي على مستوى الأحزاب والحكومات، وليس فقط على المستوى الشعبي”، على حدّ وصف المالكي لـ”النهار”.
لكن المشكلة الأساسية أمام قيام دولة فلسطينية لا تزال في الولايات المتحدة، التي تعارض الاعتراف بدولة فلسطينية في الوقت الحالي، مع ما يرافق هذا الموقف من استخدام لحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لمنع الأمم المتحدة من تحويل فلسطين إلى عضو كامل الصلاحيات في المنظمة الدولية. وهذا ما تدركه جيداً السلطة الفلسطينية.
لا بل أكثر من ذلك، الموقف الأميركي تتشارك فيه قوى أوروبية فاعلة داخل الاتحاد الأوروبي بينها فرنسا التي وجدت أن “الظروف غير مواتية بعد”، وألمانيا التي رأت “أن الأمر يتطلب مزيداً من الحوار”.
وقال متحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض إن الرئيس جو بايدن “يؤيد بقوة حل الدولتين وظل كذلك طوال حياته المهنية… ويعتقد أن الدولة الفلسطينية يجب أن تتحقق من خلال المفاوضات المباشرة بين الطرفين، وليس من خلال اعتراف من أطراف منفردة”. وهذا ما رفضه بالمطلق المالكي قائلاً إن “الولايات المتحدة تناقض نفسها حين تقول إنها مع حلّ الدولتين ثم تقوم باستخدام الفيتو ضد قرار الجمعية العامة في الأمم المتحدة، وتعترف في الوقت نفسه بدولة واحدة من هاتين الدولتين”.
مما لا شكّ فيه عند السلطة و”حماس” على حد سواء، أن الخطوة الأوروبية مهمة جداً للقضية الفلسطينية، لكنها تبقى ضعيفة من دون قوة الدفع الأميركية. وتبقى مسألة أخرى أكثر أهمية من كل ما سبق، وهي وحدة الصف الفلسطيني، إذ إن المالكي قال لـ”النهار” إن ما يحدث لا علاقة له بهجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) ولا بحركة “حماس”، إنما بالجهود الدبلوماسية للسلطة. وفي المقابل ترى “حماس” أنه لولا “طوفان الأقصى” وما تبعه من حرب إبادة، لما كان تحرك العالم للضغط على إسرائيل لوقف حربها والاعتراف بالحقوق الفلسطينية.
“حماس” لـ”النهار”: المفاوضات لم تجلب الاستقرار
ويرى الناطق باسم “حماس” في بيروت وليد الكيلاني، أن العملية جاءت نتيجة الاحتلال وحصار دام 17 عاماً لقطاع غزة، إلى جانب الاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى والتعرض للنساء، ووجود ما يقارب 5300 أسير في السجون الإسرائيلية بعضهم مضى على اعتقاله 40 عاماً ولم يتحرك أحد في العالم.
ويضيف لـ”النهار” إن عملية “7 أكتوبر” أعادت البوصلة تجاه القضية الفلسطينية، “ورأينا كيف ملأت التظاهرات دول العالم وصولاً الى الجامعات… وتوالت الصفعات التي تلقاها العدوّ من اعتراف 143 دولة في الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية، إلى قرار المحكمة الجنائية الدولية ومحاكمة زعماء إسرائيليين، وهذا لم يحدث سابقاً”.
وفي هذا السياق، يشير الناطق باسم “حماس” إلى أن الشعب الفلسطيني “جرّب المفاوضات طوال ثلاثين عاماً عبر منظمة التحرير الفلسطينية، ولم تجلب لنا لا الأمن ولا الاستقرار ولا السلام”. لذلك “من حق هذا الشعب أن يقاوم، ولا يمكن أن نقول إن عملية 7 أكتوبر جلبت المجازر الى شعبنا، فنحن تحت الاحتلال منذ 76 عاماً، وما حدث أعاد الروح إلى القضية الفلسطينية والأمل بتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني”.