صياغة الأسئلة الجيدة أفضل بكثير من طرح إجابات مؤدلجة
ليس هُناك في المُجتمع الكُردي تعريفٌ واضحٌ لعملية إنتاج الحقيقة. بداية لا بُدَّ من تحديد الهدف من مُصطلح “إنتاج الحقيقة”. هُناك دائماً شروطٌ مُعينةٌ تحكم الخطاب (Diskurs) المُجتمعي، وبالتالي تنتج الحقيقة الخاصّة بذلك المُجتمع في قضايا السياسة، المُجتمع، القيم، ومنظومة المعايير الأخلاقيّة.
يُمكِنُ طرح مثالٍ مِنَ التاريخ الكُردي المُعاصر. هُناك على سبيل المثال تخبطٌ واضحٌ ناجمٌ عن عدم حسم سؤال هام بالنسبة للكُرد. بطبيعة الحال على الكُرد طرح هذا السؤال والإجابة عليه.
السؤال: ماذا نريد؟
الإجابات المُحتملة: دولة قومية كُرديّة مركزيّة نموذجية؟
أم مجموعة دول كُرديّة؟
أم فيدراليات تشاركيَّة مع مُسْتَعمري كُردستان (الأرض التاريخيّة للكُرد الحاليين)؟
أم التخلي التام عن فكرة كُردستان بأي شكل كان (دولة مركزيّة، دول بهُويات إيديولوجيّة مُختلفة، إقليم فيدرالي) والتركيز على الاندماج الكامل في المُجتمعات العربيّة والتركيّة والفارسيّة التي تشكلت وتكونت وفق تركيبة إثنيّة ودينيّة وثقافيّة وهُوياتيَّة قسريّة في عصر التحول إلى دول قوميّة نموذجيّة بصمة الاستعمار واضحة فيها؟
هُناك توجهٌ واضحٌ لدى أربيل في التحول إلى دولة كُرديّة قوميّة نموذجيّة مُكونة من المُحافظات الثلاث: هولير، دهوك والسليمانية. في حين تريد قنديل في الوقت الراهن تجنب نموذج الدولة القوميّة قدر المُستطاع، وترفض تجزيء القضية الكُرديّة. إذ أنَّها (القضية الكُرديّة) بالنسبة لقنديل قابلةٌ للحل الشامل فقط في إطار الأمة الديمقراطيّة (تلك الأمة المُتَخَيَّلَة). بطبيعة الحال لا تعمل قنديل في هذا المنحى، وإنَّما تتخذه كمعيار ثابت تُقيس وفقاً له النشاطات بخطوطها العامّة. فما تفعله قنديل في الوقت الراهن يشبه إلى حدٍ كبير مساعي أربيل بعد العام 1946 (بعد عدول القيادة الكُرديّة في جنوب كُردستان عن فكرة كُردستان الكبيرة). إذ أنَّ مشروع الإدارة الذاتية الذي تم وضع فكرته الرئيسيّة في مناطق الكُرد بسوريا، ومناطق العيش المُشترك وفق منطق الأمة الديمقراطيّة، والذي يتخذ من النشاطات الذهنيّة لعبد الله أوجلان مصدر إلهام له، يتجه – بالنظر إلى واقع الحرب السوريّة، وموازين القوى التي تحكم عملية السلام والحل التي لا بُدَّ أن تبدأ بشكل جاد، وتُحقق نجاحاً ترضى عنه القوى الفاعلة الإقليميّة والدوليّة بالدرجة الأساس – إلى تحقيق كيان إداري بأدوات الحل الليبراليّة التقليديّة: دولة سوريّة نموذجيّة، ومناطق حكم ذاتي محدودة الصلاحيات، ومرتبطة بالمركز ارتباط الرضيع بالأم.
إنَّ مساعي قنديل الحالية ليست مُتناقضة مع مشروعها الرئيس وحسب، وإنَّما تنم عن غائيّة واضحة، ومحاولات حثيثة سمتها الرئيسية أنَّها مرحليّة للغاية، الهدف منها احتواء المرحلة والواقع المُعاش بأي شكلٍ كان. هُنا وفي هذا السياق بالتحديد من الضرورة بمكان طرح سؤال آخر على درجة كبيرة من الأهمية، وهو: ماذا تريد قنديل بالفعل؟ وهل لروجآفا في هذا السياق أيّة خصوصيّة تُذكر؟
بطبيعة الحال ليس هُناك للمشروع القائم الآن أيّة خصوصيّة، وذلك لأنَّه ما يزال في طور التأسيس والتطوير. وأشد ما يخيفني هو تداول مُصطلح “تجربة الإدارة الذاتية” في الخطاب الإعلامي المتركز حول الإدارة، والسياسي لدى قيادات مسد. إذ أنَّ كلمة “تجربة” تعني أنَّها قابلة للنجاح كما وللفشل أيضاً؛ فنحن إذ نتحدثُ عن تجربة. وهذا ربما يدل عن وجود شكوك جادة لدى النخبة القيادية في النجاح الكامل (كما تم تصوره قبل بداية الحراك في المنطقة الكُرديّة) للمشروع برمته. بكلمات أخرى، ربما لدينا توجه من النجاح الكامل إلى نجاح جزئي للمشروع: مستنقع التنازلات، والرضوخ للواقع الإقليمي والعالمي.
أمّا بخصوص المشروع الرئيسي لقنديل (الأمة الديمقراطيّة) فيمكن قول ما يلي: يفتقر أصحاب المشروع لأدوات التطبيق، وهي تعتبر في الوقت الراهن صعبة المنال، لأنَّ مشروع الأمة الديمقراطيّة يشترط بدايةً الإطاحة بالنظام الليبرالي الحالي، الذي تنتقده الأوجلانيَّة التقليديّة بشدة. لذلك، فليس من المُمكن الحديثُ الآن عن تغييرات شاملة بالشكل الذي تطرحه قنديل. كما أنَّها متورطة إلى حدٍ كبير في مشروعها النظري هذا الذي يواجه تحدياتٍ من نوع خاص، إذ أنَّ للمشروع بُعدٌ عالميٌ واضح، وبالتالي فإنَّ التغيير الذي نطمح لبلوغه يستهدف أساس النظام الحالي. كما ويُعاني المشروع من جُملة مشاكل بنيويّة لا يمكن الخلاص من وطأتها بسهولة.
وهكذا، فما لدينا الآن هو تعبيرٌ عن حالة من التخبط، وعدم الوضوح في الرؤية. إذ أنَّ الأمور تبدو في كثير من الأحيان مرحليّةً للغاية وغائيّةً للغاية، الأمر الذي يتطلب منا طرح السؤال التالي على الدوام: ماذا نريد بالفعل؟