سيل من الفرضيات والتكهنات تدفق بعد الإعلان عن واقعة إغتيال إسماعيل هنية في طهران، تناول كل ما يتعلق بها: ظروفها، طريقة تنفيذها، هدفها، عواقبها، علاقتها بزيارة نتنياهو إلى واشنطن، مستوى الرد الإيراني عليها، وسواها من الفرضيات. وتقاطعت عوامل عديدة ساعدت في تعزيز غزارة هذا السيل، من التذاكي الإسرائيلي الممل في إغفال هويتها فاقعة الحضور في كل ما ترتكبه في المنطقة من إغتيالات وتفجيرات وكوارث، إلى تعامل النظام الإيراني مع أي حدث، داخلي أو خارجي، من خلال مقاربته المرتبكة بين ضخامة طموحاته الإمبراطورية وشعاراته وقصور إمكاناته.
يُضاف إلى هذين العاملين الأساسيين، عامل آخر لايقل أهمية، وهو الوضع المتفجر في المنطقة والذي يجعل الناس متلهفة لأي جديد عن الحدث. وفتح هذا التلهف، مع العوامل الأخرى، الباب على مصراعيه لمختلف الإجتهادات والفرضيات غير المستندة إلى أي وقائع، سوى إلى “تحليلات” أصحابها الذين لا يبخلون في وصف أنفسهم خبراء، محللين، على صلة بدوائر القرار، وما إلى ذلك مما تفترضه المهنية والمصداقية والتواضع البشري في من يعمل على نشر الكلمة.
طريقة إغتيال هنية نالت القسط الأكبر من الفرضيات المختلفة التي تلتقي كلها عند قصور الأجهزة الأمنية الإيرانية. كان من المستحيل على هذه الأجهزة أن تتستر على قصورها، ومسارعة القيادة الإيرانية إلى عقد إجتماع لقادة هذه الأجهزة، كان إعلاناً صريحاً لفشلها في القيام بمهمتها في حماية الضيوف من قادة حوالى 86 دولة دعتهم إيران لحضور مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الفائز في إنتخابات حزيران/يونيو الماضي. لذا، كانت إيران شديدة الحساسية حيال الفرضيات التي شاعت عن كيفية حصول إغتيال هنية. وبرزت هذه الحساسية في إستنكار إيران لما نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” عن قنبلة أُدخلت سراً إلى إيران قبل شهرين من الإغتيال، ووضعت سراً في المبنى المعتاد الذي يستقبل فيه الحرس الثوري كبار ضيوفه المميزين، ومن بينهم إسماعيل هنية. ورأت وكالة “فارس” أن الصحيفة الأميركية تعمل على إبعاد الشبهة عن إسرائيل في تنفذ جريمة الإغتيال.
كما حصدت الكثير من الفرضيات، مقولة الإغتيال بواسطة صاروخ، خصوصاً مكان إطلاقه ومصاعب بلوغه الهدف في طهران. وتراوحت الفرضيات بين القول بإطلاق الصاروخ من إسرائيل، أو من غواصات إسرائيلية تجوب مياه الخليج قرب السواحل الإيرانية، وبين إستخدام قواعد الحلفاء الغربيين المنتشرة على مقربة من إيران أو أراضي أذربيجان الحليفة لإسرائيل التي تستخدمها إسرائيل عادة، على الرغم من نفي ذلك من قبل أذربيجان.
إضافة إلى طريقة تنفيذ الإغتيال، نالت قسطاً كبيراً من الفرضيات أيضاً زيارة نتنياهو إلى الولايات المتحدة، ومسارعته فور عودته إلى تنفيذ ثلاث عمليات ضد محور المقاومة في لبنان والعراق وإيران نفسها. وتراوحت الفرضيات في هذا المجال بين القول بحصول نتنياهو على موافقة الإدارة الأميركية على العمليات هذه، وبين سعي نتنياهو إلى إحراج الديموقراطيين والجمهوريين الذين طالبوه بإنجاح مفاضات الهدنة وإنهاء الحرب في غزة. كما شاعت فرضيات مختلفة في هذا الشأن، بين القول بأن الديموقراطيين منحوا نتنياهو موافقتهم على العمليات للتخفيف من وطأة سلوكهم المهين اتجاه نتنياهو أثناء إلقاء خطابه في الكونغرس، وبين القول بتقديم الإسرائيلي عربوناً مقدماً للجمهوريين في حال فوز ترامب في الإنتخابات الرئاسية المقبلة.
لم تنل قسطاً أقل من الفرضيات، تلك المتعلقة بالهدف من إغتيال هنية والقائد العسكري في حزب الله فؤاد شكر، واستهداف الميليشيات الإيرانية في العراق. ذهب البعض إلى القول بفشل زيارة نتنياهو إلى الولايات المتحدة، وسعي الإسرائيليين لتحدي الرغبة الأميركية في إنجاح مفاوضات الهدنة وإنهاء الحرب. ورأى آخرون أن هذا الفشل المفترض حرر نتنياهو من الضغوط الأميركية لعدم توسيع رقعة الحرب إلى كل المنطقة. وذهب البعض إلى القول بسعي نتنياهو إلى إستعادة زمام المبادرة بعد هجوم تشرين الأول/اكتوبر، ومغادرة موقع ردّ الفعل على الأحداث، بل صناعتها. وقال محللون أن نتنياهو يسعى إلى إستفزاز إيران لتوسيع رقعة الحرب إلى المنطقة، وإجبارها على خوض الصراع مع إسرائيل مباشرة وليس عبر أذرعها.
معظم المواقع الروسية لم يسترسل في الفرضيات، بل يكاد يجزم بأن الإغتيالَين في الضاحية الجنوبية وطهران، حلقتان في عملية واحدة. وأجمعت هذه المواقع على أن العمليتين أكدتا مرة أخرى تفوق المخابرات الإسرائيلية، وتسلحها بأحدث المنجزات العلمية وامتلاكها شبكة عملاء واسعة في مناطق “محور المقاومة”. ورأت أن إغتيال هنية في طهران، يطرح على القيادة الإيرانية مهمة المسارعة إلى إصلاح أجهزتها الأمنية، والكشف عن جيوب عملاء إسرائيل في البلاد. إضافة إلى ذلك، جهد بعض هذه المواقع للبحث عن علاقة ودور ما للولايات المتحدة في العمليات الإسرائيلية الأخيرة، وتحميلها جزءاً من المسؤلية عنها.
صحيفة الكرملين vz، وسواها من المواقع الروسية، نشرت أكثر من نص خلال الأيام الماضية عن عمليات الإغتيال الإسرائيلية. يوم إنتشار نبأ إغتيال هنية في 31 تموز المنصرم، نشرت الصحيفة نصّين، رأت فيهما أن الإغتيال كشف فشل المخابرات الإيرانية وضروة إصلاحها. النص الأول عنونته “مقتل هنية يكشف فشلاً كبيراً في الإستخبارات الإيرانية”. وفي العنوان الثانوي المرفق نقلت عن خبير قوله بأن مقتل كبير مفاوضي “حماس” مشكلة بالنسبة لإيران.
نقلت الصحيفة عن رئيس تحرير مجلة “روسيا في الحياة الدولية” الرصينة، والمدير العلمي لمنتدى “فالداي” للحوار الدولي Fyodor Lukyanov قوله بشأن الجهة المتهمة بإغتيال هنية، بأن تصفية قيادات المنظمات المعادية، ممارسة تقليدية للأجهزة الإسرائيلية. وذكّر بأنها قامت منذ 20 عاماً بتصفية الزعيم الروحي لـ”حماس” الشيخ أحمد ياسين. ورأى أن عملية إغتيال هنية أثبتت عدم قدرة إيران على توفير الأمن لضيف عزيز عليها، وكانت “صفعة لهيبتها”. وأضاف أنه، بصرف النظر عن حسن الضيافة، فقد اتضح أن بوسع العدو تنفيذ عمليات مدمرة وناجحة داخل البلاد، وهو العدو اللدود الذي توظف إيران كل ما لديها لمجابهته.
كما نقلت الصحيفة عن الباحث في معهد الإستشراق Vladimir Sazhin توافقه مع رئيس التحرير بأن إغتيال هنية وشكر، حلقتان في عملية واحدة. لا يقول الباحث بوقوف إسرائيل وراء العمليتين “لغياب المعطيات” حتى اللحظة، لكنه يقول بأن مثل هذه العمليات نموذجية بالنسبة للدولة العبرية.
يرى الباحث أن عملية إغتيال هنية، هي فشل كبير واضح لأجهزة المخابرات الإيرانية. وقال بأنه، من الناحية النظرية، من الممكن أن يكون ممثلو المخابرات الإيرانية الذين جنّدتهم إسرائيل أو المتعاطفين معها، متورطين في مقتل هنية. ورأى أن المشاعر المعارضة للنظام قوية في إيران، ولا يستبعد أن يكن مثل هذه المشاعر بعض أفراد القوى الأمنية، مما يجعل التصدي للمخاطر أكثر صعوبة.
وقال الباحث بأن الرد الإيراني على ما حدث سيكون قاسياً. ورأى أن إيران ستعزز دعمها لحزب الله و”حماس”. وأشار إلى أن مهمة البحث عن المسؤلين عن الإغتيال ستكون مسألة شرف بالنسبة للإيرانيين. والحكام الإيرانيون بحاجة إلى إعادة الإعتبار لأنفسهم، “على الأقل” بنظر الإيرانيين. ولذا بوسعهم أن يباشروا العمل على إجتثاث عملاء إسرائيل في البلاد. ورأى أن القيادة الإيرانية ستطلق حملة بروباغندا واسعة، سنشهد بدايتها قريباً.