قدّر للكاتب التشيكي بوهوميل هرابال (1914 – 1997) أن يعيش حياة عريضة، ولكن على الهامش من كلّ شيء، مُكتفيًا بالنظر إلى العالم من خلف نافذة حانة “النمر الذهبي” التي كان يرتادها في براغ، صامتًا، يرتشف أكواب البيرة واحدًا تلو الآخر، تحت أشّعة الشمس التي تغمره عبر الزجاج، أو جالسًا وسط أصدقائه القدامى منفجرًا في الضحك، بعد أن روى عليهم إحدى حكاياته أو طُرفه التي لا تنتهي.
على هذا النحو كانت كتابة بوهوميل هرابال أيضًا، رواياته وأعماله القصصية ورسائله الطويلة، تأتي ملفوفة بغلالة شعرية ساخرة، لكن لطعمها المرّ لسعة لا تُنسى؛ سِمة أصيلة ستطغى على إرث هرابال الأدبي منذ نجح في الهروب من ملاحقة النازيين في بلده التشيك عام 1939، عندما اقتاد الألمان زملاءه في جامعة براغ ورحّلوهم إلى معسكر اعتقال “زاكسينهاوزن”، وعلى الرغم من أن هرابال ظلّ مُنعزلًا لسنوات، مُبتعدًا عن المظاهرات والاحتجاجات الشعبية، والتي وصلت ذروتها عام 1968 مع اندلاع “ربيع براغ”، حيث أضرم الطالب يان بالاش النار في نفسه احتجاجًا على النظام الذي فرضته روسيا، إلّا أن أعمال هرابال كانت تظهر تباعًا، ما أثار استياء الكثير من قرّائه، واعتبره آخرون مجرّد كاتب جديد استطاع النظام الشيوعي أن “يدجّنه”.
مع استيلاء الشيوعيين على السلطة في بلاده عام 1948، بدأ هرابال كتابة عدد من القصص التي ستجلب له الشهرة وسط مجايليه، وبحلول ربيع براغ عام 1968، كان أحد ألمع نجوم الأدب التشيكي، خاصة بعد حصول فيلم “قطارات تحت الحراسة المشدّدة”، والمقتبس عن روايته التي تحمل العنوان ذاته، على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 1968، والذي شارك هرابال في كتابة السيناريو الخاص به مع رفيقه المخرج التشيكي جيري مِنزل.
صحيح أن هرابال نجح في الهروب بجلده من قبضة النازيين عام 1939، لكن النظام الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا حينها لم ينس فعلته الرعناء تلك، وبالتالي جعل النشر مستحيلًا أمامه أوائل سبعينيات القرن الماضي إن لم يتعاون معه، وهو ما خضع له هرابال بالفعل، حين وقّع عام 1975 على إعلان ينصّ على موافقته على برنامج الحزب الشيوعي الحاكم في بلاده، وبعد ذلك بعامين، رفض هرابال التوقيع على “ميثاق 77” – والذي وقّع عليه أغلب كتّاب التشيك آنذاك – خوفًا من منعه من النّشر، على الرغم من إنها الحركة السلمية التي قادها رفيقه الكاتب المسرحي التشيكي فاتسلاف هافيل بنفسه، والتي دعا فيها الحكومة إلى مراعاة حقوق الإنسان، وتكرّر ذلك مرّة أخرى عام 1989، عندما رفض هرابال التوقيع على عريضة مشابهة.
لم يهاجر هرابال خلال الفترة المظلمة لما عرف لاحقًا بـ”مرحلة التطبيع”، والتي سادت عقديّ السبعينيات والثمانينيات بعد الغزو الروسي لبلاده، حيث هاجر الكتّاب الجيّدون أو لجأوا إلى العمل السرّي، وبدلًا من ذلك، ظلّ هرابال يراوغ السلطات – ونفسه أيضًا – في تلك السنوات المظلمة، ما خلق في كتابته حسًّا نقديًا عاليًا لأساليب الدول الشمولية في السيطرة على مبدعيها، لذلك كانت أعماله ومقابلاته الصحافية تخضع للرقابة المستمرة أو التشويه المتعمّد، إلّا أن روائعه الأدبية لم تتوقف عن الظهور، وحتى لو لم تكن تحصل على إذن بالنشر في التشيك، فقد كانت روايات هرابال الصغيرة تُنسخ وتوزّع من يد إلى أخرى، ما أثار حفيظة وغضب السلطات الشيوعية التشيكوسلوفاكية آنذاك.
ليس تاريخًا مشرّفًا على أية حال، لكن ما يشفع لهرابال أنه لا ينكر شيئًا؛ في كتاب جديد صدر مؤخرًا باللغة الهولندية تحت عنوان “حصان ذو ثلاثة أرجل”، ضمّ مجموعة مُختارة من 14 “رسالة” (لم ترسل إلى صاحبتها أبدًا)، كتبها هرابال إلى شابة أميركية تدعى “أبريل جيفورد” في الفترة من 1989 وحتى عام 1991، يكشف فيها هرابال عن الكثير من مواقفه الضبابية تجاه التقلّبات والتطوّرات السياسية التي شهدتها بلاده، ومن بينها الرقابة التي فرضها النظام الشيوعي في التشيك، يقول: “الرقابة موجودة على الدوام، كانت وستظلّ موجودة إلى الأبد، أنا نفسي لا أستطيع أن أكتب سطرًا واحدًا دون أن يمرّ تحت أعين الرقباء، وذلك لأنني عرضة للتقلّبات، ولهذا أقول أحيانًا أشياءً غير مقبولة لإثارة إعجاب البرجوازيين”!
“روائعه الأدبية لم تتوقف عن الظهور، وحتى لو لم تكن تحصل على إذن بالنشر في التشيك، فقد كانت روايات هرابال الصغيرة تُنسخ وتوزّع من يد إلى أخرى، ما أثار حفيظة وغضب السلطات الشيوعية التشيكوسلوفاكية آنذاك”
كانت الشابة الأميركية أبريل جيفورد تدرس اللغات السلافية في جامعة ستانفورد، وأُعجبت بأعمال هرابال التي قرأتها في أثناء تعلّمها اللغة التشيكية، وقررت زيارة الكاتب الكبير في بيته الريفي في ضاحية “كيرسكو” المحاطة بالغابات شمال شرقي براغ عام 1988، وحينها رأت رجلًا حزينًا هدّه رحيل زوجته الحبيبة للتوّ، مكتفيًا بعزلته مع العشرات من القطط الضالة التي كان يرعاها في بيته الريفي، باحثًا عن إلهام أو مشروع أدبي جديد، وعند مغادرتها وعدته أبريل – والتي منحها هرابال اسم “دوبينكا”، مشتقًا الاسم من الكلمة التشيكية “دوبن” والتي تعني “أبريل” – بأن تنظّم له جولة أدبية في الولايات المتحدة الأميركية.
لم يكن وعدًا فارغًا، فقد غادر هرابال مدينته الأثيرة براغ بالفعل في آذار/مارس 1989 إلى ما أسماه في رسائله بتورية ساخرة “الولايات المبتهجة الأميركية”، وهي زلّة لغوية وقعت فيها الشابة الأميركية أمام هرابال حين استبدلت كلمة “الولايات المتحدة” بـ”الولايات المبتهجة”، وظلّ هرابال يكرر استخدامها ممازحًا صديقته الشابة، وقد كان ترتيب هذه الجولة الأدبية مع كاتب فوضوي مثل هرابال أمرًا مرهقًا جدًا، وكون تشيكوسلوفاكيا كانت لا تزال تحت الحكم الشيوعي جعل الأمر أكثر صعوبة، وبدأت الشكوك حول السماح لهرابال بمغادرة البلاد تتغلّب على الشابة الأميركية، لكنها استطاعت رغم العقبات أن تتواصل مع السفارة التشيكوسلوفاكية في أميركا، وترتّب اللقاءات والحوارات الصحافية لهرابال، بل وأنشأت منظّمة طلابية غير ربحية في جامعة ستانفورد للمساعدة في إدارة الشؤون المالية للجولة الأدبية المرتقبة، وجاءت أول مساهمة مالية للرحلة من المخرج التشيكي ميلوش فورمان، الحائز على جائزة الأوسكار مرتين، وقد حذا حذوه العديد من المهاجرين والمؤسسات الثقافية الأخرى.
“حصان ذو ثلاثة أرجل”، ضمّ مجموعة مُختارة من 14 “رسالة” (لم ترسل إلى صاحبتها أبدًا)، كتبها هرابال إلى أبريل جيفورد في الفترة من 1989 وحتى عام 1991
ورغم كل هذا التكاتف الذي أحاط بـ”الجولة الأدبية” لهرابال في المدن الأميركية المختلفة، والتي استمرت لبضعة أسابيع، إلا أنها لم تكن ناجحة بأي شكل من الأشكال، فقد تعثّر هرابال قبل مغادرته شقته في براغ ووصل إلى أميركا بإصابة واضحة في الرأس، تعلن عنها ضمّادات طبّية ناصعة البياض، وظلّ يجادل وكيله الأدبي في كلّ أمسية أدبية تقام له، بسبب الأسئلة الكثيرة التي كانت تُطرح عليه حول الوضع السياسي في التشيك، ورأيه في سياسات رئيس الدولةـ الكاتب المسرحي فاتسلاف هافيل.
يعود تاريخ أغلب الرسائل إلى خريف عام 1989، بعد عودة هرابال من جولته الأميركية، وهي الفترة التي شهدت ما عرف بـ”الثورة المخملية” في براغ، لذلك نجد هرابال ينتقل باستمرار في رسائله بين ما رآه في أميركا قبل أيام، وما يراه الآن في ميادين وشوارع مدينته، ولم يتردّد لحظة في الإعلان عن إعجابه برؤية مسيرات الآلاف في شوارع براغ منطلقين إلى القلعة مركز الحكم، في ثورة سلمية لرفض الديكتاتورية الشيوعية المفروضة عليهم. يقول هرابال في رسالة بتاريخ 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989: “وهكذا وقفت أمام الحانة مُرتديًا قبّعة الفرو الروسية، بينما كان الآلاف في ميدان “وينسيسلاس” يتدفّقون أمامي وهم يصرخون ويحملون اللافتات المطالبة بالتغيير… لم يسبق لي أن رأيت هذا العدد الكبير من البشر الأنقياء الذين لا ترمش لهم جفون، لم يسبق لي أن رأيت مثل هذا الوقار في الشباب… مشيت معهم ووصلت إلى كلّية الحقوق القديمة، حيث كانت الخوذات البيضاء تلمع وتبرق عبر الجسر، وتوقفت حيث رأيت قبل 50 عامًا، الجيش وقوات الأمن الخاصة تطارد زملائي الطلّاب خارج الكلية”.
“كانت كتابة بوهوميل هرابال أيضًا، رواياته وأعماله القصصية ورسائله الطويلة، تأتي ملفوفة بغلالة شعرية ساخرة، لكن لطعمها المرّ لسعة لا تُنسى”
شكّلت الثورة المخملية عام 1989 التحوّل السياسي الأخير في حياة هرابال الطويلة، عاشها وهو في الـ 75 من عمره، كما كانت أيضًا خامس التشنّجات السياسية الكبرى التي تشهدها تشيكوسلوفاكيا في القرن العشرين، وفي هذه الرسائل السردية الطويلة والمرتبكة، يُظهر هرابال – وللمرّة الأولى ربّما – ضعفه أمام الديكتاتورية في بلاده، بل ويُعلن في أكثر من موضع منها عن خجله من “حمّامات الطين” التي كان يضطر إلى تحمّلها، حين كان يذهب بنفسه إلى أجهزة الرقابة للحصول على تصريح يخوّل له نشر أحد أعماله، ففي رسالته إلى دوبينكا والمعنونة “بكلّ قوة”، يقول هرابال إن أهالي قريته “وبّخوه” علانية لتعاونه مع النظام الشيوعي، و”بصقوا عليه” في الشوارع، وفي موضع آخر يذكر أنه ذهب إلى وزارة الداخلية لتأمين نشر روايته “عزلة صاخبة جدًا”، واصفًا مَذلّته وقتها قائلًا: “كانت حمّامات من الطين، لكن معدتي كانت تحتمل كلّ هذه الإهانات، حمّام طين كهذا كنت أحتمله، لأنني لا أملك خيارًا آخر”.
بوهوميل هرابال (إلى اليسار) إلى جانب الرئيس التشيكي فاتسلاف هافيل والرئيس الأميركي بيل كلينتون ومادلين أولبرايت في براغ، 1994 (Getty)
كأنّ هرابال اعتبر أن كتبه أهمّ من سمعته، أو كأنه لم يكن قادرًا على تخيّل الكتابة – وبالتالي الحياة – بدون جمهور، هذا الافتقار إلى الغرور المعتاد لدى الكتّاب الذين أصابتهم الشهرة دون السعي إليها، يجعل من هذه المجموعة النادرة من الرسائل تعليقًا أخيرًا من كاتبها على معاناته مع نظام ديكتاتوري فُرض عليه، كما تقدّم لنا أيضًا صورة كاشفة عن هشاشة شخصية هرابال المترددة أصلًا، والذي كان – في الوقت ذاته – شخصًا لا يهتم على الإطلاق بما سيقوله الآخرون عن أفعاله، فهو هرابال الفج دائمًا، سواء كان ضيف شرف في جامعة أميركية، أو ضيفًا على شقة سوزان سونتاغ الفاخرة في نيويورك، فيحرق وسائد صالونها الأنيق بلسعات سجائره، ويسكب أكواب البيرة على الفراش الوثير.
هل جاءت زيارة الشابة الأميركية الجميلة دوبينكا، متزامنة مع اندلاع “الثورة المخملية” لتمنح الكاتب المسنّ و”نمر الحانة” بوهوميل هرابال، والأرمل للتوّ، أملًا جديدًا في الحياة؟
يمكن اعتبار “رسائل” هرابال إلى “دوبينكا” آخر مشروع سيرة ذاتية للكاتب التشيكي صاحب “دروس في الرقص للمسنّين”([1]) (1964) و”أنا خدمت ملك إنكلترا”([2]) (1971)، و”البلدة التي توقّف فيها الزمن” (1974)، أو عمليه البارزين “قطارات تحت الحراسة المشدّدة”([3]) (1966) و”عزلة صاخبة جدًا”([4]) (1976)، حيث تشغل الرسائل المجلّد الثالث عشر من أعماله الكاملة، وهي وإن كانت رسائل مبهجة وعاطفية، مليئة بالمزاح والندم والسخرية السوداء على حياة صعبة خرّبتها الدراما السياسية، إلّا أنها أيضًا وثيقة أدبية مهمّة عن حقبة ما بعد الشيوعية في أوروبا الوسطى، ومصدرًا مهمًّا للتعرف على هرابال نفسه كإنسان، ففيها لا يخجل الكاتب من الاعتراف لملهمته الأميركية الشابة قائلًا: “أنا الحصان ذو الأرجل الثلاثة، كائن متعثر، راهنتي عليه لمجرّد أنّه يحمل اسمًا جميلًا، والآن ها أنا أتعثّر من محاضرة إلى أخرى، ومن عائلة مضيفة راقية إلى شقّة سوزان سونتاغ، تاركًا الفوضى في كل مكان”، وفي موضع آخر يقول إن رسائله إليها: “لم تكن إلّا اعترافًا بخوفي”.
في مقال مطول كتب إثر رحيل بوهوميل هرابال عام 1997، يقول المترجم الهولندي كَيس ميركس، الذي قام بنقل أغلب أعمال هرابال إلى الهولندية: “في المرحلة الأخيرة من حياته، لم يعد هرابال يكتب أعمالًا روائية كما كان يفعل في السابق، بل اكتفى بالكتابة للصحافة الأدبية، كما كان صريحًا وصادمًا بشكل خاص في رسائله إلى دوبينكا، الشابة الأميركية التي أعلن لها عن تقلّباته بعد “الثورة المخملية”، كانت تلك الفترة المضطربة أكثر إيلامًا لهرابال، فقد كان عليه أن يواجه استعادته للحرية بإحساس كبير بالذنب، بسبب مهادنته للحكم الديكتاتوري في بلاده”.
بعد ظهر الثالث من شباط/ فبراير عام 1997، سقط بوهوميل هرابال (أو قفز) من إحدى نوافذ الطابق الخامس لمستشفى بولوفكا الذي كان نزيلًا به في العاصمة التشيكية براغ، وحتى اليوم لا أحد يعرف كيف جرى الأمر، وهل كان حادثًا أم انتحارًا، إلّا أن النتيجة واحدة: مات بوهوميل هرابال، الكاتب الذي وصفه ميلان كونديرا يومًا ما بأنه: “أهم كتَّاب التشيك على الدوام”.
إحالات:
Bohumil Hrabal, Een Driebenig paard, uitgeverij Prometheus, Amsterdam. 2024.
[1] ترجمها عن الإنكليزية خالد البلتاجي، وصدرت عن دار “صفصافة” بالقاهرة عام 2019.
[2] ترجمها عن الإنكليزية خالد البلتاجي، وصدرت عن دار “صفصافة” بالقاهرة عام 2020.
[3] ترجمها عن الإنكليزية الشاعر الراحل بسام حجار، وصدرت عن دار “الفارابي” عام 1990، وأعيد نشرها عن “المتوسط” في 2017.
[4] ترجمها عن الإنكليزية منير عليمي، وصدرت عن “المتوسط” في 2017.
شارك هذا المقال