أربعة عقود ولم يتغير الكثير، فباستثناء قدرات حزب الله على بناء الأنفاق وعلى شراء الشاحنات الحديثة، ما زالت الحرب تخاطب أجيالاً وممانعين غبطوا الحزب على نفَقِه، وشعروا أنه تعويض عن إخفاقات شهدتها الجبهة خلال الأسابيع الفائتة.
في بلدة ضهور الشوير في أعالي المتن الشمالي، التي لجأنا إليها قادمين من بيروت، ليس هرباً من الحرب، إنما ابتعاداً عن ضجيجها، وصلنا الفيديو الذي نشره “حزب الله” لنفق “عماد 4″، هكذا من دون أن نعرف معنى الرقم 4 ودلالته، باستثناء أنه أحد عناصر التشويق التي تضاف إلى مشاهد الشوارع التي تعبرها شاحنات الحزب، ومقاتليه الذين يعبرونها على نحو ما يعبر جنود الجيوش الأوروبية المدن في أفلام الحرب العالمية الثانية!
والحال أنني في ضهور الشوير، وبموازاة ما خلفه لدي الفيديو من أسئلة، والنفق من أنفاق، كنت قد بدأت أستعيد مشاهد من محيط البلدة التي كان نقلنا الحزب الشيوعي إلى محيطها للقتال في أواسط ثمانينات القرن الفائت. النفق وعوالمه لا يشبهان ما بقي في ذاكرتي عن تلك الحرب، إلا أنه لسبب ما خصّب ذاكرتي ودفع بمشاهد رافقت رحلتي في ذلك الزمن من عيون السيمان، على ما أذكر، إلى بلدة بولونيا ومنها إلى تلة مشرفة في بلدة بكفيا، التي كان يتمركز فيها أعداؤنا في ذلك الزمن، حزب الكتائب.
طافت السوشيل ميديا بالتعليقات بين متحمّسين ومنتشين بفيديو النفق، وبين ساخرين من محاولة الحزب عبره حفظ ماء وجهه بعد الخسائر التي أصابته بفعل الحرب.
في ضهور الشوير، ما زال أثر الحرب التي ارتكبناها قبل أربعة عقود ماثلاً في منازل حجرية كثيرة هجرها أصحابها، ولم يعودوا إليها على رغم انقضاء أكثر من أربعين عاماً على الحرب! بيوت بالغة الجمال، ومن الواضح أن زمناً مزدهراً شهد على قيامها وعلى حياة سكانها. وأنا واحد من أولئك الذين أوفدهم الحزب الشيوعي للقضاء على هذا الازدهار.
نفق “حزب الله” هو سياق آخر من المأساة اللبنانية، وأنا لا أعرف ما إذا كان جزءاً من “فيكشن” الحرب، أم من وقائعها الفعلية، إلا أنه أعاد الى ذاكرتي صوراً كنت أعتقد أنها تلاشت وانمحت بعد أربعة عقود من الشطب والنكران. فجأة حضرت الشاحنة الروسية التي أقلتنا من بلدة الرميلة في ساحل الشوف إلى أعالي الجبل، ووجوه المقاتلين القوميين السوريين من أهالي ضهور الشوير الذين نصحنا قائدنا بألا نختلط بهم كثيراً.
لا أدري ما إذا كان ما أستعيده حقيقة أم خيالاً. الأرجح أنه هذيان النفق، ذاك أن البيوت الخربة وغير المدمرة في ضهور الشوير ليس لها في ذاكرتي أي أثر! السكان القوميون السوريون هنا يقولون إن اهتراءها سببه وحدات الجيش السوري التي قدمت بعد الحرب وأقامت في هذه المنازل.
بالنسبة إلي، النفق غير حقيقي، وهو من زمن آخر، وذلك الجندي الذي يظهر في الفيديو يجري مكالمة عبر هاتف أرضي، لا يشبه ما كنا عليه رثاثة وفوضى، والشاحنات البيض اليابانية الرشيقة لا تشبه الشاحنة الروسية المتثاقلة أثناء صعودها إلى عيون السيمان. لكن الحروبَ حروبٌ، وما ينجم عنها متشابه. هكذا رحت أقول لنفسي عندما سألتها عن سرّ استيقاظ تلك المشاهد في ذاكرتي.
أربعة عقود ولم يتغير الكثير، فباستثناء قدرات حزب الله على بناء الأنفاق وعلى شراء الشاحنات الحديثة، ما زالت الحرب تخاطب أجيالاً وممانعين غبطوا الحزب على نفَقِه، وشعروا أنه تعويض عن إخفاقات شهدتها الجبهة خلال الأسابيع الفائتة.
عليّ ألا أُذهل، ذاك أنني قبل أربعة عقود كنت هنا لمعاينة المدفع الذي سيمطر بلدة بكفيا بقذائفه ما أن يأتينا “الضوء الأخضر” بالهجوم. الفوارق كبيرة وكثيرة، إلا أنها تتصل عبر ذلك النفق الداخلي، الذي راح يرسل إلي صوراً لنفسي في تلك الشاحنة السوفياتية التي يهدر محركها بصوت أعرض من صوت الطائرات المسيرة التي تغزو أجواء الحرب في هذه الأيام.
لم تنقطع الكهرباء في ضهور الشوير عندما أعلنت الحكومة اللبنانية ببيان رسمي العتمة الشاملة في اليوم نفسه الذي بث فيه حزب الله فيديو النفق. الأرجح أن لدى البلدة مولدات خاصة، وأن أهلها يدفعون فواتير موازية لفاتورة الكهرباء. لم نشعر بـ”العتمة الشاملة”، فهي كانت أقرب إلى فكرة منها إلى واقع معاش، والغبطة التي خلفها النفق ولدت شعوراً بأن ما ينتظرنا لا تعوزه الطاقة الكهربائية. ففي الشاحنة السوفياتية، وأثناء صعودها إلى أعالي المتن وتوقّفها في ذلك الفندق المهجور في بلدة بولونيا، كانت العتمة أيضاً شديدة، مع فارق أنها لم تترافق مع بيان رسمي يعلن حلولها.