تدفع أسباب عديدة إلى النظر إلى الحكم القائم في دمشق، قيادة وهيكلاً وجمهوراً، على أنه نظام إسلامي أو يسعى إلى ذلك. فمن جهة أولى تشكل عصب السلطة من جماعة ولدت في فضاء السلفية الجهادية وتقلبت فيها. ومن جهة أخرى الأدلة كثيرة على التوجه الإسلامي لعدد من كبار المسؤولين، من الوزراء إلى معاونيهم ومدراء الهيئات العامة حتى مستويات متوسطة ودنيا. مع ما ينتج عن ذلك من سياسات وقرارات، وإن جرى التراجع عن بعضها بضغط من هذا السبب أو ذاك.
هذه النظرة سائدة إلى حد كبير، لكنها تتضح أكثر في بيئات بعيدة نسبياً عن المعاينة المباشرة. ففي سورية نفسها تيارات وطوائف لا ترى في الحكم القائم أكثر من أنه إحدى تنويعات تنظيم القاعدة أو بعض مراوغاته. وخارج البلاد، حيث تكتفي جماهير مسلمة وجماعات إسلامية بالمشهد الإجمالي؛ يُنظر كثيراً إلى رجال السلطة الجديدة على أنهم «إخوة» يسددون ويقاربون.
والحق أن أحداً لا يستطيع أن يضرب بهذه الحجج والرؤى عرض الحائط فوجاهتها واضحة، لكن من شأن تأمل أدق أن يرينا طابقاً ربما كان أعمق، لا ينفي ما فوقه لكنه يضعه في إطار مفهوم أكثر. وفي سبيل ذلك لنتغاض، مبدئياً، عن هيكل الحكم وكوادره ولنركز، الآن، على قيادته وقاعدته.
فمن طرفها لم تقصّر القيادة، المكونة من عدة أشخاص على رأس الهرم، في إيضاح أن سياساتها لا تهدف إلى أن تكون إسلامية. وقد تجلى ذلك في علاقاتها الخارجية وتعهداتها للدول أكثر مما في الملفات الداخلية التي تخضع لتوازنات القوى وتتصرف فيها بتناوب يومي.
وعلى كل حال فقد اتضح من ذلك كله أنها حكومة «وطنية»؛ بمعنى أنه لا طموح لها خارج الحدود، ولا جهاد، ولا مساع لتأسيس أو الانخراط في أي نمط من الوحدة، الإسلامية أو العربية، مع الانفتاح على الدول المؤثرة في هذين العالمين بهدف تحقيق الهدف المعلن مراراً في التنمية. وفي سبيل ذلك تؤمن السلطة بأعلى درجة ممكنة من المركزية، والسير في طريق «المستبد العادل» إلى أقصى حدوده المتاحة. ويحتفظ الحاكم هنا بحرية واسعة في اتخاذ القرارات بناء على الثقة، ويطلب ألا تحدّه بصرامةٍ قوانين أو مؤسسات أو معارضة، ولا حراس للشريعة. خاصة وأنه «المحرِّر» الذي حصل على البيعة من «أصحاب الشوكة» وقُضي الأمر.
وقد لاقى «الفاتح»، منذ اليوم الأول لدخوله العاصمة، جمهوراً سورياً عريضاً لا يمانع هذه الصيغة من الحكم. وبينت الأشهر السبعة الأخيرة منذ ذلك أن افتتان هذه الجماهير بقائدها يحملها على تأييد قراراته بكليتها، والتطوع المتحمس للدفاع عنها في الحياة العامة، من الاحتفالات في الساحات مروراً بالنقاشات في المجتمع إلى وسائل التواصل الاجتماعي. حتى لم يعد يحتاج إلى جيش إلكتروني مع هذه الموالاة الحرة.
ومرة أخرى تدفع عوامل عدة، محقة لكنها غير كافية ولا نهائية، كثيرين إلى أن يعدّوا هذا الجمهور إسلامياً. وهذه مسألة فيها نظر كما يقال.
فمن زاوية تأسيسية أولى لم تأت هذه الجماهير، ككل جماهير في الحقيقة، من مدرسة أيديولوجية منضبطة، هي الإسلامية هنا، تشترط على «الأمير» تطبيق منهج معين جرى التعاقد عليه سلفاً بموجب «البيعة»، الملزِمة عملياً لكن المبصِرة نظرياً. وهي حال بعيدة عن وضع جموع من العرب السنّة المسارعين إلى إطلاق الألعاب النارية ابتهاجاً بالإعلان عن «الهوية البصرية» لسورية الجديدة التي تبحث عن استعادة دورها المتميز في المنطقة.
لا أيديولوجيا وسيطة بين «القائد» و«الجماهير»، أو قل إنها أيديولوجيا النهضة وانبعاث العنقاء. الوطن المستيقظ بين الخرائب بإرادة ظافرة متفائلة وزعيم قوي؛ الجماعة المنتبهة إلى وحدتها في وجه أعداء الداخل من المختلفين؛ الأشخاص الداعون إلى التراصّ والوقوف صفاً وراء الجيش والأمن؛ الكارهون الخشنون المنتشون لجملة «الضرب بيد من حديد»؛ المبادرون إلى «الفزعة» لدعم «الدولة» سواء طلبت منهم أم لا. وهذه كلها من علامات الفاشية.
وفي تقديري أن وصف الفاشية الإسلامية أو الجهادية ليس دقيقاً. فالفاشية ليست مجرد وعاء بل حزمة متكاملة تحوي الشكل والمضمون وآليات ترابطهما. فهي، إذ تقوم على الشرائح الدنيا، المفقَرة، من الطبقة الوسطى، تحمل قيم هذه الشرائح. الموقف اليميني مما يُعرف بقيم التنوير، كالديمقراطية وحقوق الإنسان، مما يجعلها موضوعياً في موقع مضاد للثورة (الفرنسية أصلاً). الإيمان بالقوة وازدراء الضعفاء. الحاجة إلى النظام والخوف من الحرية. تأليه الدولة وطلب وجود جهاز تنفيذي قوي يهمش السلطتين التشريعية والقضائية. الحاجة المبالغ فيها إلى الخضوع للسلطة والتماهي معها. الميول العسكرية وشبه العسكرية. مناصرة حكم الفرد الآمر والإعجاب بذوي النفوذ. الاهتمام بالشعارات والرموز. استذكار حالة تاريخية حقيقية أو متوهمة والرغبة في استعادتها (المرحلة الأموية مثلاً). العنصرية، القومية أو الوطنية، القدَرية. العدوانية والتعصب العام والتشدد في الرأي وضعف المرونة. تقييد الحرية الإنفعالي. النفور من الغموض. تذرير المجتمع السياسي والاستعانة لذلك بحمّى إرهاب جماهيري. احترام البنى البطريركية والذكورية في مواجهة النزوعات الفردية والمنشقين-ات. تأييد التمييز الطبقي وفوارق المكانة بين الأفراد. الالتزام الصارم بالقيم النابعة من التقاليد. الرغبة في مصادرة آراء الآخرين والسيطرة على أفعالهم. البحث عن عدو يسهم اضطهاده في وحدة القبيلة (عادة ما يبدأ داخلياً من الأقليات). وأخيراً استعمال دين الأغلبية لتحريك الرأي العام، وهنا يأتي دور الدين بوصفه أداة للنظام لا العكس.
أين الإسلاميون السوريون إذاً؟ «الإخوان المسلمون» في المنفى و«حزب التحرير» في السجن وداعش في البادية و«سرايا أنصار السنة» تحت الأرض. لكن المعضلة الأساسية للحكم هي مع جسده.
فعلى الرغم من المركزية الكبيرة، التي تتكشف وتتعزز شهراً وراء شهر، فإن من انخرط في برنامج القيادة كلياً هو عدد محدود من المساعدين والمستجدين. أما مئات الكوادر من المدنيين والعسكريين، وآلاف حولهم، فهم في منزلة بين المنزلتين؛ يسهمون بكل طاقاتهم في بناء «الدولة» التي يرونها فرصة يجب العض عليها بالنواجذ للسير نحو حكم إسلامي مؤجل ما، ويعجزون عن استيعاب سيل «البراغماتية» المنهمر. لكن مشاغلهم اليومية الملحة، في وظائف ما زالوا يتعلمون ألفباءها، تنقذهم من الحيرة إذ تزجهم في «العمل» وتبعدهم عن «التنظير». وهي سمة فاشية كلاسيكية كذلك.
مقالات مشابهة