نعم، لقد تأخر الجنوبيون بالاعتراف أن هذه الحرب ليست نزهة، بل نكبة أخرى، وأنهم سوف يتجرعون مراراتها إلى أجل غير معروف، فالقافلة المغادرة، لا تعني سوى أن جنوبهم وليس ميس الجبل وحدها، على وشك فقدان الحياة.
حين قدم الرحابنة مسرحية ميس الريم في ربيع العام 1975، كانت مدافع الحرب الأهلية قد بدأت بتمزيق جسد لبنان، ودويها يرتفع ليغطي على أصوات “المصالحة” بين العائلتين المتخاصمتين، التي كانت تطلقها زيّون (فيروز) في ساحة ميس الريم، فاحتلت المسرحية مساحة كبيرة من وجدان اللبنانيين، لكنها لم تؤثر على مسار الحرب وويلاتها.
وفي ربيع العام 1978 احتلت إسرائيل ميس الجبل، إثر اجتياح منطقة جنوب نهر الليطاني، وفي ساحتها المفتوحة على فلسطين، وقفت فاطمة (اسم مستعار) تصرخ وتبكي وتتوسل أهلها ألا يتركوا الضيعة، لكن أصوات الغارات الجوية الإسرائيلية طغت على توسلاتها، ووجدت نفسها بعد يومين محبوسة في شقة على الطابق السابع في محلة برج البراجنة قرب بيروت.
على أن التشابه أو التماثل بين ميس الجبل وميس الريم لم يأت من فراغ.
عن التشابه، يذكر عاصي الرحباني في مقابلة بثها تلفزيون لبنان في أحد أيام عزه، كيف ابتدع وشقيقه منصور اسم ميس الريم، وقال إنهما حين عكفا على مراجعة أسماء القرى اللبنانية، استوقفهما اسمان هما ميس الجبل في الجنوب وقاع الريم في البقاع، فأخذا الجزء الأول من الأولى والجزء الثاني من الثانية، وهكذا خرج إلى النور اسم قرية لبنانية وهمية، سوف تظل بشخوصها وأحداثها محفورة في ذاكرة اللبنانيين إلى اليوم، وإلى اليوم سوف نسمع الكثير من الجنوبيين يطلقون على ميس الجبل ميس الريم، تحبباً.
في التماثل، يقال إن للقدر يداً في ترتيب حيواتنا وتشكيل مصائرنا من دون علم منا، وما اتفقنا على تسميته صدفة أو تخاطراً، ما هو إلا انعكاس لتدخله، ففي آخر أيام الصيفية، وبعدما تقطّعت السبل مجدداً بأهل ميس الجبل، وسدت الحرب طرق وصولهم إلى أعمالهم، لجأوا إلى “التنسيق” لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرزاقهم، مثلما انقطعت العربية (السيارة) بزيّون في ساحة ميس الريم، ولم تعرف أين ورشة التصليح، فشهدت حرباً عائلية أخرتها على العرس في قريتها البعيدة.
لكن الحرب في ميس الجبل لا تشبه “الحرب” في ميس الريم التي سببتها قصة حب بين نعمان وشهيدة، ومع ذلك صارت المفردة الأخيرة (شهيدة) شائعة في ميس الجبل وفي الجنوب كله، وباتت تتقدم أسماء قرابة ستمئة مواطن جنوبي، كما أن مسرح الأحداث في ميس الريم غنائي ساخر برغم تورطه بالسياسة، أما مسرح الأحداث في ميس الجبل فينطوي على كثير من الحزن وانقطاع الأمل، بلغة المسرح هو مأساة وليس ملهاة.
فقد انفطرت قلوب الجنوبيين مرة أخرى، حين رأوا مشهد قافلة الشاحنات المحملة بالبضائع وهي تغادر ميس الجبل؛ ربما إلى غير رجعة، إذ أعادت إلى ذاكرتهم مشهد نزوحهم الأول بعد “عملية الليطاني” عام 1978، وتفرقهم في المغتربات والمنافي، وخساراتهم التي لم يعوضها ثراء لاحق ولا نعم حديثة العهد، كما أنها نطقت بحقيقة تجنبوا الاعتراف بها على مدى أحد عشر شهراً من عمر “حرب الإسناد”.
نعم، لقد تأخر الجنوبيون بالاعتراف أن هذه الحرب ليست نزهة، بل نكبة أخرى، وأنهم سوف يتجرعون مراراتها إلى أجل غير معروف، فالقافلة المغادرة، لا تعني سوى أن جنوبهم وليس ميس الجبل وحدها، على وشك فقدان الحياة، إذ إن تفقد المؤسسات والمنازل والأراضي الزراعية والعودة الموقتة بين الهدن غير المعلنة والمشاركة في الجنازات “المنسقة” مسبقاً، التي صارت جزءاً من يومياتهم وشكلاً من أشكال إصرارهم على البقاء في أرضهم، سوف تنقطع، وبالتالي سوف تفقد ميس الجبل، والجنوب ضمناً، أُنسها، وتتحول إلى منطقة خالية.
تقول فاطمة حتى في أيام الاحتلال “لم تخل ميس الجبل ولا أخواتها، من أهلها، وظلت قرى الشريط الحدودي مأهولة، وإن كان بعدد قليل من السكان، لكن هذا الوقت مختلف كثيراً، العدو ينوي طردنا من أرضنا”.
فاطمة التي كبرت وعملت وتزوجت بعيداً عن ميس الجبل، وعادت إليها بعد انسحاب إسرائيل عام 2000، تصف قافلة الشاحنات التي خرجت من ميس الجبل ب”الانسحاب الاقتصادي”، وتقول: “هناك 24 سنة بين الانسحاب العسكري والانسحاب الاقتصادي، عشنا خلال هذه السنوات في وهم كبير، ولو لم تقدنا عواطفنا لكنا أسسنا بعيداً واسترحنا”.
تقول فاطمة حتى في أيام الاحتلال “لم تخل ميس الجبل ولا أخواتها، من أهلها، وظلت قرى الشريط الحدودي مأهولة، وإن كان بعدد قليل من السكان، لكن هذا الوقت مختلف كثيراً، العدو ينوي طردنا من أرضنا”.
الحقيقة المرة أن الانسحاب الاقتصادي من ميس الجبل يعني أن الحرب طويلة الأمد، وأن الصبر عليها ما عاد جميلاً، وأن قرار إفراغ منطقة جنوب النهر صار واقعاً، وأن المنطقة سوف تعود مجدداً لتكون حزاماً أمنياً مرصوداً بالنار كما كانت في السابق، لكنها هذه المرة، لن تخضع لاحتلال تقليدي، بل سيطرة، سوف تتحول إسرائيل إلى قوة تحتل الجو، احتلال يشعر الناس بثقله لكنهم لا يرونه.
أما مشهد خروج الشاحنات على وقع أغنية جوليا “قولولن رح نبقى” فهو أبعد ما يكون عن معاني البقاء والصمود، ولو أن من نشر مقطع الفيديو استبدلها بأغنية “سألتك حبيبي لوين رايحين”، التي غنتها فيروز في ميس الريم، لكان المشهد أكثر واقعية.
يوضح مصدر حزبي أن “هدنة إفراغ البيوت والبضائع مستمرة، وستشمل قرى أخرى”، وهذا بحد ذاته يطرح جملة من الأسئلة، هل كانت هذه الحرب في محلها أم أنها توريطة للحزب، طالما أنها لم تخفف عن غزة بل دمرت الجنوب وهجرت أهله؟ هل سنسمي هذا الإفراغ او الإخلاء نصراً لأن إسرائيل انصاعت له غصباً عنها؟.
على خط آخر، شكا سكان مناطق الحرب، من تأخر الاستجابة لطلباتهم في إخراج أرزاقهم؛ أو التنسيق، ورأوا نوعاً من “الطبقية أو المحسوبية السياسية، في تبدية أهل ميس الجبل”، وقال أحد المعترضين: “نحن أيضاً قدمنا طلباً لدى المعنيين، لنطلع على ضيعتنا ناخد أغراض بيوتنا وأرزاقنا لي فينا ننقلها، ولم يصلنا أي رد بعد”.
ميس الجيل هي العصب الاقتصادي للمنطقة، تشتهر باحتكار أسواق تجارية ضخمة مثل المفروشات والأدوات المنزلية والكهربائية والسجاد، وتحت كل بيت أو مبنى فيها يوجد مخزن أو مستودع لهذه البضائع، وهي تشكل مقصداً بديلاً عن صيدا وبيروت (البعيدتين) للسكان المقيمين في محيطها من بنت جبيل إلى حاصبيا إلى مرجعيون إلى النبطية، ولها قيمة معنوية كبيرة، حيث يتحدر منها مسؤولون كبار في الثنائي الشيعي خصوصاً حركة “أمل” والمجلس الشيعي، وفيها طبقة من الأغنياء والمغتربين الذي يؤثرون على القرارات السياسية ويمولون الحزبين الشيعيين.
لكل هذه الأسباب تم التنسيق بين الجهات الأربعة: الثنائي الشيعي والجيش اللبناني وقوات “اليونيفيل” وإسرائيل، لإنقاذ ثرواتها، وحول هذه النقطة، علق مواطن جنوبي قائلاً: “اللهم لا حسد، تجنّد الثنائي والقوى الدولية والجيش وخضعت إسرائيل لهدنة، من أجل ميس الجبل، كي ينقل أهلها أرزاقهم، الحق معهم، فالأرزاق الأخرى لا يمكن نقلها بالشاحنات، مثل قفران النحل وقطعان المواشي والأحصنة ومزارع الدجاج، ومن يستطيع نقل شجرة زيتون من كفركلا أو شتلة تبغ من عيترون؟ من بإمكانه أن ينقل تينات حولا وعرائشها أو حقلاً مزروعاً بالسمسم أو بيدر قمح من مركبا أو بليدا؟ وهل يمكن نقل استراحات الدردارة من سهل الخيام؟ ومن يستطيع نقل البيوت وأثاثها وحدائقها والدكاكين والمصالح الصغيرة، والحقول والجرارات الزراعية والسيارات والحياة البسيطة التي تشظت بالكامل؟”.
مسرحية ميس الريم ملأى بالإسقاطات السياسية، مثل “مسرحية” ميس الجبل، لكن قلة من تعامل معها بذكاء، ففي أغنية “هالسيارة مش عم تمشي” التي أنهت بها فيروز المسرحية، نسمع “مبارح شفناهن رايحين على قمر العشاق طالعين واحنا بمطرحنا واقفين والسيارة مش عم تمشي”، والقصد منها كما أوضح عاصي الرحباني في المقابلة نفسها، الإشارة إلى الصراع على الوصول إلى الفضاء بين الأميركيين والسوفيات القطبين العالميين الجبارين في ذلك الزمن، وقد رأينا مركباتهما الفضائية تنزل على سطح القمر، الذي كان في علومنا الرومنسية مجرد لص يظهر في الليل ليفضح العشاق. لكن أين صاروا اليوم بعدما اكتشفوه؟ لقد استبدلوه بالأقمار الصناعية التي تتجسس على حياتنا وتراقبنا ليل نهار، وتعرف أسامينا وألوان أعيننا وأجناس الأجنة في أرحام نسائنا وتتصيدنا مثل العصافير، و”نحنا بمطرحنا وافقين”، لا، لم نعد كذلك، نحن نتراجع إلى الخلف…