لكلّ من طهران وتل أبيب وواشنطن رواية خاصّة يمكنها أن تقدّمها دليلاً على أنّها هي المنتصر. بإمكان الولايات المتّحدة أن تقول إنّها أضعفت برنامج إيران النووي، وأن تؤكّد إسرائيل أنّها أنهكت إيران. في حين تستطيع طهران بدورها أن تقول إنّها صمدت وتصدّت لقوى عسكرية أقوى بكثير ومنعت نظامها من السقوط ووحّدت الإيرانيّين خلف حكومتهم وضدّ العدوان الخارجي، وتشدد على أنّ برنامجها النووي لا يزال قائماً ويمكن إعادته إلى الحياة فوراً.
الجدل في شأن هويّة المنتصر ومستقبل المشروعَين النوويّ والإقليمي الإيرانيَّين وحسم نتيجة الروايات الثلاث، يبقى معلّقاً في انتظار العودة إلى طاولة المفاوضات أو عدمها.
لكنّ الالتفاف الشعبي والسياسي حول النظام في لحظة الهجوم الخارجي لا يعني تسليم كلّ الشرائح والفئات الإيرانية بحكمه والرضى الدائم عنه. ذلك أنّه كان مرتبطاً بلحظة وطنيّة متعلّقة بالحلم النووي الذي يُجمع عليه كلّ الإيرانيين، من دون استثناء. ومع تقدّم الوقت تتراخى المنعة القومية الإيرانية ويعود التنافر الداخلي إلى مكانه السابق، وقد يشتدّ بمفاعيل الضربات وما خلّفته من أزمات واختناقات أمنيّة بعدما شدّدت السلطة قبضتها الحديد على الأنفاس إثر ظهور خرق أمنيّ واستخباريّ إسرائيلي وغربي هائل في القلب الإيراني.
الخطوة الأولى نحو تغيير المعادلة القائمة الحالية تبدأ بمعرفة الخصم معرفة دقيقة، وصوغ استراتيجيات جديدة تحاسب الذات وتتعلّم من الإخفاقات وتعيد النظر في السياسات الحالية
إسرائيل تخلّت عن استراتيجيتها الرّدعيّة
الأهمّ من ذلك أنّ نجاة النظام الإيراني بنفسه من العدوان والهجوم المركّب الواسع، لا يُخفي بالضرورة الأخطاء القاتلة في التفكير الاستراتيجي الإيراني، التي كانت السبب في جعل الهجوم ممكناً والأجواء الإيرانية مفتوحة والمسارب إلى عمق أجهزة النظام متاحة بحرّية فائقة. قراءة الخصم ونيّاته المبيّتة وتحرّكاته المحتملة هي واحدة من أهمّ عناصر الاستراتيجية الناجحة.
أخطأت إيران وأخطأ المحور وأخطأت تيّارات المقاومة بعجزها عن قراءة الطرف الإسرائيلي وخياراته وقدراته على الفعل. بل عجزت أيضاً عن قراءة تاريخ إسرائيل وعقيدتها الاستراتيجيّة الراسخة في التعامل مع التهديدات. اعتبرت إسرائيل أنّ 7 أكتوبر يُمثّل تهديداً مباشراً لوجودها، ليس لأنّ هجوم “حماس” كان سبّاقاً في جرأته، وتسبّب بخسائر هائلة في يوم واحد، بل لأنّه تسبّب في انهيار منظومتها للردع بالكامل. أقرّت فوراً بخطأ قراءتها لنيّات الخصوم. اعترفت بأنّ ردعها قد انهار تماماً، وأنّ عليها تغيير الاستراتيجية على نحوٍ جوهريّ.
تخلّت عن استراتيجية الردع التي مارستها منذ قيامها عام 1948 لمنع التهديدات. وكانت هذه الاستراتيجية تقتضي التلويح بالعواقب الوخيمة والعمليّات الاستباقية لتخويف الخصوم من استعمال أسلحتهم الفتّاكة مثل الصواريخ والتسلّل والتفجيرات الانتحارية. اختارت استراتيجية بديلة تقوم على تفعيل الاشتباك المباشر وشنّ الهجمات الجريئة واستهداف القدرات الفعليّة ونقاط قوّة الخصوم وليس فقط التأثير على نيّاتهم.
سارعت إلى اتّخاذ قرار خوض حرب مباشرة داخل قطاع غزّة والإجهاز على قدرات “حماس”. ولم تتوانَ عن شنّ هجوم كاسح ضدّ “الحزب”، ليس لردعه فقط بل لتصفية قدراته ومنعه من أن يكون سهماً قاتلاً موجّهاً إلى قلبها. اغتنمت الانهيار الكبير في سوريا وسقوط نظام بشّار الأسد لكسر الجسر الذي يوصل بين طهران والضاحية الجنوبية وإعادة إيران إلى خلف حدودها الجغرافيّة.
لم تتأخّر في توجيه كلّ حرابها نحو إيران على اعتبارها “رأس الأفعى”. لجأت إلى عنصر المفاجأة، خرقت البنى التحتية والفوقية لخصومها وكشفت عن تخطيط طويل المدى، وحقّقت نجاحات مذهلة. مع ذلك، لم تستطِع حتّى الآن تحويل مكاسبها العسكرية الكبيرة إلى نصر سياسي استراتيجي حاسم من شأنه أن يتوّجها زعيمة مطلقة في الشرق الأوسط، وظلّت أسيرة المساعدة الأميركية وطلب يد العون السياسي والعسكري والماليّ من واشنطن.
الجدل في شأن هويّة المنتصر ومستقبل المشروعَين النوويّ والإقليمي الإيرانيَّين وحسم نتيجة الروايات الثلاث، يبقى معلّقاً في انتظار العودة إلى طاولة المفاوضات أو عدمها
إيران والمحور أسرى القديم
إسرائيل تمكّنت بسرعة من تغيير استراتيجيتها. في المقابل، تمنّعت إيران والمحور والمقاومون العرب المؤمنون بخيار الكفاح المسلّح، عن فعل الأمر نفسه. إذ بدوا عاجزين عن فهم التصوّر الاستراتيجي المختلف لدى إسرائيل لخوض الحرب، وتحويل موقف الضعف بعد “طوفان الأقصى” إلى فرصة، ثمّ إلى موقف تكون فيه لإسرائيل اليد العُليا.
ظلّوا أسرى الحسابات القديمة، تشكّكوا في قدرة إسرائيل على القيام بحرب استنزاف قاربت مدّة 650 يوماً، وأن تخوض الحرب على سبع جبهات معاً، وأن تدخل حرب أزقّة في غزّة، وأن تمتصّ جبهتها الداخلية ارتجاجات الصواريخ البالستية التي خرقتها من لبنان وإيران واليمن، وأن تدير الأذن الطرشاء لقرارات المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية والنداءات العالمية والاتّفاقات والهيئات الأمميّة، وأن تواصل المجازر المرعبة بدم بارد من دون أيّ رادع أو وخز ضمير.
فاقت ارتكاباتها بكثير ما ارتكبته النازيّة والفاشيّة والخمير الحمر وقبائل التوتسي والهوتو في القرن الماضي. ومع ذلك لا يزال نهر الدم الفلسطيني يتدفّق.
ضعف التّفكير الاستراتيجيّ
كانت أمام إيران والمحور والمقاومة فرصٌ لقراءة الموقف المتغيّر، وقراءة مؤشّرات السلوك الإسرائيلى الجديد، توطئة لتعديل التصوّر الاستراتيجي، لكنّها لم تفعل. عجز هؤلاء جميعاً عن رؤية هجوم إسرائيلي كاسح يتحضّر في وضح النهار. العجز عن مواجهة إسرائيل بفاعليّة أكبر سببه الرئيس عجز التفكير الاستراتيجي وغياب القدرة على قراءة الخصم قراءة واقعية دقيقة.
العرب عموماً وإيران وكلّ من أراد صراعاً مفتوحاً مع الاحتلال والمشروع الصهيوني، لا نعرف الكثير عن إسرائيل ولا نعرف العقل الإسرائيلي كيف يفكّر وكيف يتحرّك
في الواقع نحن العرب عموماً وإيران وكلّ من أراد صراعاً مفتوحاً مع الاحتلال والمشروع الصهيوني، لا نعرف الكثير عن إسرائيل ولا نعرف العقل الإسرائيلي كيف يفكّر وكيف يتحرّك. هم يعرفون كلّ شيء عنّا، نقاط قوّتنا ونقاط ضعفنا، أحوالنا السياسية الاقتصادية والفكرية والدينية والنفسية والمعيشية، ودرسوا مذاهبنا والطوائف والإتنيات والقبائل والعشائر والعائلات والأحزاب وحتّى الجمعيّات.
خبروا ما يجمعنا وما يفرّقنا، وعملوا على إبراز الخلافات بيننا وتضيق مساحة الالتقاء. صنّاع السياسة عندنا ومراكز الأبحاث وأنصاف المثقّفين لا يعرفون عن إسرائيل والإسرائيليين والصهيونية وعلاقتها باليهود، سوى ما تنقله الصحف ومراكز الأبحاث الإسرائيلية والغربية عن إسرائيل ومؤسّستها العسكرية ومجتمعها. الأخبار الصالحة لها هدف والأخبار الطالحة لها أهداف أيضاً.
إقرأ أيضاً: كيف لمجرم حرب أن يُمنح جائزة سلام؟
لم تكلّف الجامعات عندنا ولا مراكز الأبحاث نفسها عناء البحث الجدّي لمعرفة العقل الإسرائيلي مباشرة عن غير طريق الواسطة. ولا نعرف أميركا معرفة علمية وموثّقة ولا صنع القرار في دوائرها ولا دور اللوبيات في ذلك، ولا سرّ علاقتها الخاصّة بإسرائيل. ألم نسأل يوماً لماذا تختلف أميركا مع كندا الأقرب إليها ثقافيّاً وروحيّاً واقتصاديّاً ولغويّاً ومعرفيّاً وجغرافيّاً، ولا تختلف أبداً مع إسرائيل البعيدة عنها كلّ البعد من كلّ النواحي؟
الخطوة الأولى نحو تغيير المعادلة القائمة الحالية تبدأ بمعرفة الخصم معرفة دقيقة، وصوغ استراتيجيات جديدة تحاسب الذات وتتعلّم من الإخفاقات وتعيد النظر في السياسات الحالية، التي أوصلتنا إلى التخبّط والتفرقة، وتتلاءم مع لغة العصر وعلومه وتبني تحالفات مغايرة تؤسّس لميزان قوى جديد، لا يمكن للعامل العربي إلّا أن يكون لولبها والأساس والمحرّك.