بين مبادرة ذاتية وقراءة استراتيجية عميقة للتحوّلات في لبنان والمنطقة، جاء موقف رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط بتسليم السلاح إلى الجيش اللبناني، كخطوة محسوبة تستبق المسارات الإقليمية الضاغطة، وتعبّر في الوقت نفسه عن التزام وطني بمنطق الدولة ومؤسساتها الشرعية. وقد تدرّج هذا الموقف منذ أشهر، وتعزّز بعد زيارة الموفد الأميركي توم براك إلى بيروت، التي شكّلت منعطفًا واضحًا في طريقة تعاطي المجتمع الدولي مع ملف السلاح غير الشرعي في لبنان.
التزام بالدولة وتنفيذ لوعد سابق
بحسب أوساط سياسية مقرّبة من جنبلاط، فإن المبادرة إلى تسليم السلاح لا تنفصل عن الالتزام الواضح بما ورد في خطاب القسم الذي ألقاه رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، وما تضمّنه البيان الوزاري لحكومة الرئيس نواف سلام من تشديد على حصرية السلاح بيد القوى الأمنية الشرعية.
وتشير الأوساط إلى أن جنبلاط بذلك ينفّذ وعدًا سبق أن قطعه للرئيس عون، خلال زيارة قام بها إلى قصر بعبدا في 27 شباط الفائت، برفقة رئيس الحزب النائب تيمور جنبلاط، حيث أبدى استعداده الكامل لوضع ما تبقّى من سلاح تحت تصرّف الجيش اللبناني. وترى المصادر أن هذه الخطوة يجب أن تكون محفزاَ لباقي الأحزاب اللبنانية التي لا تزال تحتفظ بسلاحها، لتقوم بالمثل وتعيد السلاح إلى مؤسسات الدولة، حفاظًا على ما تبقّى من الكيان الوطني.
الحوار ثابت… لكن المبادرة واجبة
جنبلاط، الذي لطالما تمسّك بالحوار كخيار استراتيجي لحل الأزمات السياسية، لم يتراجع عن هذا المبدأ، بل يرى أن التجارب التي مرّت بها البلاد أثبتت أن الحوار وحده هو السبيل لتجاوز الأزمات، لكنه يعتبر أيضًا أن الحوار وحده لا يكفي إذا لم يُرفق بخطوات عملية تؤكد الجدية والاستعداد للتنازل لمصلحة الدولة.
ولم تأتِ خطوة جنبلاط بمعزل عن السياق الإقليمي المتسارع. فبعد الحرب التي شنّتها إسرائيل ضد إيران، والتدخّل الأميركي المباشر في ضبط الميدان، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن “الوقت أصبح مناسبًا للانخراط في عملية سلمية في المنطقة”، في ما بدا كإشارة مباشرة إلى دخول المنطقة في مسار تطبيعي جديد، يشمل قوى كانت تُعتبر في محور المقاومة.
وتشير الأوساط المقرّبة من جنبلاط إلى أن موقفه لا ينبع من “استعجال”، بل من “قراءة واقعية لما يجري في المنطقة”، حيث تتقدّم التسويات على وقع الانهيارات العسكرية والجيوسياسية. وهو يرى أن على لبنان التعامل مع هذه المعطيات بما يحفظ كيان الدولة ويجنّبها العزلة أو الانهيار.
الورقة الأميركية والرد اللبناني
في خضم الحديث عن مهلة أميركية للبدء بتسليم سلاح “حزب الله” شمال الليطاني، ومطالب واضحة حملها توم براك في زيارته الأخيرة، كان جنبلاط أوضح في موقف علني أنه “لم يطّلع، ولم يسمع، ولم يقرأ ما يُسمّى ورقة مطالب رفعها المبعوث الأميركي”، مشدّدًا على أن قرار وضع السلاح بتصرّف الشرعية اللبنانية “اتُّخذ على مستوى الحكومة”، ولا علاقة له بأي ضغوط خارجية.
ووفق الأوساط الجنبلاطية، فإن رئيس الجمهورية هو من يتولّى التفاوض مع حزب الله بشأن ملف السلاح، في حين أن السلاح الفلسطيني يتم العمل على معالجته تدريجيًا، وفق قرار سبق أن أعلنه الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال زيارته إلى لبنان، حيث أبدى استعداده لمعالجة هذه المسألة داخل المخيمات.
وفي موازاة الضغوط الدولية التي طالت أيضًا ملف ترسيم الحدود مع سوريا، خصوصًا في ما يتعلّق بمزارع شبعا وبلدة الغجر، أعادت أوساط الزعيم الدرزي التذكير بأن وليد جنبلاط في كلامه أعاد تأكيد موقفه التاريخي الذي يعتبر أن هذه المزارع، وفق القانون الدولي وقرار مجلس الأمن 242، هي أراضٍ سورية، ما لم تقدّم الدولة السورية وثائق رسمية تسمح للبنان بتقديمها إلى الأمم المتحدة لتثبيت لبنانيتها.
ويشدّد على أن هذه المسألة “شماعة” تُستغل سياسيًا في كل مرة يُفتح فيها ملف السلاح، مؤكدًا في الوقت نفسه أنه “سيكون الأكثر فرحًا” إذا جرى حسم هذه القضية مع الدولة السورية، وتثبيت لبنانيتها رسميًا.
وفي سياق الأسئلة عن مستقبل العلاقة اللبنانية ـ السورية في ضوء التوجّه السوري نحو مفاوضات سلام مع إسرائيل، جاء كلام جنبلاط ليؤكد أن هذه المسألة “تتعلّق بسوريا”. أما بالنسبة إلى لبنان، فإن اتفاقية الهدنة مع إسرائيل، الموقّعة عام 1949، “هي الأكثر تأمينًا للاستقرار في الجنوب”، ويجب الحفاظ عليها باعتبارها إطارًا قانونيًا يضمن عدم الانزلاق نحو المواجهة.
كما جدّد موقفه بأن “لبنان يجب أن يكون آخر من يطبع مع الكيان”، إذا ما اندفعت باقي الدول العربية في هذا الاتجاه.
مبادرة جنبلاط رسالة تحذير
في ظل تسارع التفاهمات الإقليمية، وبروز الورقة الأميركية ومن ثم الرد اللبناني المعلّق مع وقف التنفيذ بانتظار الموقف الأميركي الرئاسي منه، والإسرائيلي بالتوازي، كمقدّمة لتفاهمات جديدة حول لبنان، تأتي خطوة جنبلاط كمبادرة استباقية ورسالة سياسية واضحة: إما أن يستعيد لبنان زمام المبادرة من خلال خطوات سيادية ذاتية، أو يُترك نهبًا للفراغ والانهيار والعزلة.
وإذا كانت الورقة التي أعدّها لبنان ردًا على براك تؤكّد على الحوار وتدرّج الخطوات، فإن مبادرة جنبلاط تسير خطوة أبعد، مؤكدة أن الدولة لا تُبنى بالشعارات، بل بالمبادرات الجريئة، وبتنازل الكبار من أجل بقاء الكيان.
الأكثر قراءة
توم براك- Getty
بن فرحان يحذّر لبنان: اغتنموا الفرصة.. وإلا الحرب مجدداً
حزب الله _Getty
الرد اللبناني المقترح: سحب السلاح الثقيل ربطًا بترسيم الحدود
جوزاف عون ومطارنة الانتشار
مطارنة الانتشار يقودون معركة اشراك المغتربين ويوجهون رسالة للرؤساء
جنوب لبنان (Getty)
حزب الله بمواجهة “ديبلوماسية الإنذارات”: لا تسليم للسلاح بلا انسحاب
اعلان
تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي
image
image
image
image
image
subscribe
إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
أدخل بريدك الإلكتروني
اشترك الآن