تعرّف السيرة الذاتية بأنها نوع من أنواع السرد الذاتي الذي يخص الحديث عن الذات في علاقة الإنسان التواصلية مع الآخر، ويقوم الكاتب في هذه الكتابة عن الذات، باعتبارها عملًا إبداعيًا، من أجل تقديم تجربته الحياتية للناس. وقد عرفت تطورًا كبيرًا في أساليب الكتابة، تزامنًا مع التغيرات والتحولات التي حصلت في العالم على مرّ السنين، لكنها أثارت جدلًا حول تصنيفها كنوع أدبي.
ويرى عبد اللطيف الوراري في كتابه “السيرة الذاتية: النوع وأسئلة الكتابة” (سليكي أخوين، طنجة، 2023) أن السيرة الذاتية لم يتم الاعتراف بها كنوع أدبي إلا في الربع الأخير من القرن العشرين المنصرم، وذلك على الرغم من أن أصولها تمتد عميقًا في الثقافات الإنسانية، حيث تبلورت مجموعة من الأشكال السيرية والسيرذاتية منذ العصور القديمة. ويستند إلى ميخائيل باختين في اعتباره أن تلك الأشكال مارست تأثيرها على سواها من أجناس الخطاب، وخاصة الرواية، وقامت على نوع جديد من الزمن السيري، وعلى صورة جديدة تخص الإنسان في مجرى حياته. ويسعى في كتابه إلى تقديم صورة عن المواضيع المتصلة بأدب السيرة الذاتية، بدءًا من الإغريق والرومان، مرورًا بالفضاء العربي الإسلامي، وصولًا إلى التقليد الأوروبي أو الغربي، من أجل التوصل إلى ما يسميه “براديغم سيرذاتي”. ثم ينتقل إلى تناول مقولات السيرة الذاتية وسؤال النوع، والنظر في صلاتها بالتاريخ والتخييل، والهوية الغيرية وابتكار الذات، مع التوقف عند طبيعة السيرة الذاتية في الشعر، وتطبيقات كل ذلك في النصوص الأدبية ذات الصلة، وحسبما وردت في أعمال كل من عبد المجيد بن جلون، ورشيد يحياوي، وعبد المنعم رمضان، وعبد الإله بن عرفة، وإيمان مرسال، وحسن النجمي، ومبارك وساط، وسواهم.
الهدف الذي يطمح إليه المؤلف من كل ذلك هو ضبط التأويلات المتنوّعة لنوع السيرة الذاتية من خلال النصوص النظرية والفلسفية والشعرية المختلفة لمؤرّخي الأدب ومنظّري الأنواع الأدبية من جهة، والسعي إلى الإمساك بالغنى النصّي والتخييلي الذي أتاحه تطوُّر السيرة الذاتية في ضوء مفاهيم الذات والمرجعية والتخييل والكتابة، سواء في علاقتها بالأنواع القريبة أو المجاورة لها، مثل السيرة، الرواية، التاريخ، الأرشيف الشخصي، التخييل الذاتي، أو في عبورها إلى الشعر باعتباره خطابًا مخصوصًا، من جهة أُخرى. إضافة إلى الوقوف على ما أنجزته نظرية السيرة الذاتية وتحوّلها الراهن، مع ما يتصل بها من نقاشات لأوجه الاختلاف والتشابه على المستوى الإبستيمولوجي، كما الشعري، بين التصورات السيرذاتية الجديدة، وتحليل مصطلحات الخطاب السيرذاتي ومقولاته التي تختلف من حيث تاريخيتها وتعدّد روافدها ومرجعياتها.
“تزعم بعض النزعات التمركزية بأن السيرة الذاتية جنس خاص بالثقافة الغربية المسيحية، كونها ارتبطت في أصولها بالدين المسيحي، وتحديدًا بشعيرة “الاعتراف”.”
تزعم بعض النزعات التمركزية بأن السيرة الذاتية جنس خاص بالثقافة الغربية المسيحية، كونها ارتبطت في أصولها بالدين المسيحي، وتحديدًا بشعيرة “الاعتراف”، الذي يعدّ المسار المفضي إلى التطهر من الذنوب، والتخلص من الخطايا المرتكبة. وعليه، فإن السير الذاتية في نماذجها القديمة ارتبطت بشكل وثيق مع ثقافة التطهر المسيحية، التي تنبع من الرغبة في التخلص من الشعور بالذنب حيال الخطايا المرتكبة، ولا يمكن التخفف منها إلا بالاعتراف بارتكابها وطلب الاعتذار والصفح، ومن يستتبع ذلك من إماطة اللثام عن عيوب الذات وتعريتها وجلدها. ويسوق أصحاب هذه النزعات أن السيرة الذاتية القديمة ارتبطت بكتاب “الاعترافات” الذي ينسب إلى القديس أوغسطينوس، ويعتبرونه الأب المؤسس لها. أما في العصر الحديث، فيربطونها بكتاب الاعترافات لجان جاك روسو، الذي طورها، واعتبره أغلب الدارسين أنه مؤسس السيرة الذاتية الحديثة، التي تخلصت من التأثيرات والدوافع الدينية المسيحية، لكنها بقيت محافظة على الاعتراف كطريق للكتابة عن مسار حياة الإنسان وتقديمها للآخرين، بهدف كشف مكونات وخبايا الذات بكل صراحة وصدق وشفافية.
غير أن الدراسات التاريخية أظهرت أن قدماء المصريين دونوا على احجار المعابد والمقابر والأهرامات تراجم لعظماء الحكام والقادة، فيما اهتمت الكتابة السيرية عند الإغريق والرومان، بتاريخ أعظم الملوك والوزراء والقادة العسكريين، من أجل إبراز قواهم الخارقة، إضافة إلى إعادة تأبينهم بعد موتهم وتمجيدهم وتخليد ذكراهم. ويرى المؤلف أن الكتابة السيرية عند الإغريق والرومان قامت على تمجيد “الرجل العظيم”، لذلك اختلفت كتابة السيرة عندهم عن كتابتها عند العرب، حيث لم تحفل بنظرية “الرجل العظيم” في كتابة سيرها. ويرجع ذلك إلى أن الشريعة الإسلامية سوّت بين الناس، إلا في طاعة الله. ويحتاج هذا الطرح إلى كثير من التدقيق والتمحيص، خاصة وأن السيرة الذاتية القديمة تناول بعضها حياة الأبطال، وتشعبت في موضوعاتها كثيرًا، حيث تعددت الأسماء والمصطلحات التي وصف بها العرب كتابة السيرة الذاتية، واستخدموا في وصفها مصطلحات متقاربة دلاليًا، مثل السيرة، والترجمة، والفهرسة، والمناقب، والبرنامج.
عبد اللطيف الوراري
يستند المؤلف على أطروحات فيليب لوجون في السيرة الذاتية، الذي عرّف السيرة الذاتية بأنها “حكي استعادي نثري يقوم به شخص حقيقي عن وجوده الخاص، عندما يركز أساسًا على حياته الفردية، ولا سيما على تاريخ شخصيته”، ويتضمن هذا التعريف أن يكون الحكي نثرًا، مع حصر الموضوع المتناول على الحياة الفردية وتاريخ الشخصية، وأن يكون هناك تطابق بين المؤلف والسارد والشخصية، إضافة إلى المنظور الاسترجاعي للحكي أو السرد. لكن التعريف الذي أعطاه لوجون للسيرة الذاتية، يجسد ما أسماه “الميثاق السيرذاتي” شرطًا أساسيًا لقيامها ولتشكل عناصرها التكوينية، باعتباره غير قابل للفصل عن الميثاق المرجعي، لأنه يمثّل قول الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة. وهي فرضية غير متفق عليها، لأن الميثاق السيرذاتي يمثل إعادة بناء الأنا انطلاقا من الذاكرة، وبالتالي فإن القول إنّ السيرة الذاتية تُشكّل تمثيلًا دقيقًا وأصيلًا لحياة الكاتب هو مجرد وهم، بالنظر إلى أن الطابع الاسترجاعي للسيرة الذاتية يتضمن اختلافًا بين زمن الكتابة وزمن التاريخ. إضافة إلى أنه خلال الكتابة لا تتوقف الحياة بل تستمر، فيما ينظر كاتب السيرة الذاتية نحو الماضي الذي عاشه، والمفترض أن يسيطر على ما يكتبه من حكي. ومن جهة أخرى، تقوم السيرة الذاتية على استراتيجية التوتر أو المشادة بين الاستبطان الذاتي والنفسي، وبين المرافعة والدفاع عن الذات، حيث يعرف الكاتب بذاته، ويكشف هويته، ويستبطن ذاته كي يقوم بالاعتراف، ويفهم ذاته من خلال الخطاب، وإلى جانب هذا الاستنباط والاعتراف، يتحكم بعد آخر يتمثل في الإقناع والحجاج. إضافة إلى أن السيرة الذاتية يمكن اعتبارها فنًا مرجعيًا وتخييليًا في الوقت نفسه، فهي تجد مرجعها في حياة المؤلف الذي يقوم بسرد حقيقي وصادق، وتتبع فيه ضوابط الحكي السيرذاتي، كما أنه فن تخيُّلي أيضًا لأن الكاتب يتوسل بالكتابة والتخييل، وما يستتبع ذلك من تقنيات وفنون السرد، بغية توليد انطباع لدى المتلقي بأن ما يقرأه طبيعي وحقيقي وصادق، على الرغم من أنه يتم وفق تقنيات التخييل وممكناته السردية. ويعتبر المؤلف أن كاتب السيرة لا يقوم بسرد تفاصيل حياته وينقلها حرفيا، بل يصنع منها حكيًا، وفق ما تفرضه التقنية السردية، وما تمليه عليه من إكراهات مرتبطة بالشكل السردي، حيث أن الكاتب يعيد تشكيل حياته حتى تصبح طيعة للكتابة. إضافة إلى ما يلعبه النسيان من دور، وكذلك قد يلعب قصور الذاكرة في غياب حقيقة معينة من ماضي الكاتب، ومن ذكرياته، فيضطر إلى الاستعانة بالخيال، كي يتمكن من سد فجوات ثغرات الذاكرة وفجواتها. تطورت كتابة السيرة الذاتية في العقود الأخيرة، واستطاعت التحرر من قيود وإكراهات المرجعية التقليدية، حيث أخذت تميل نحو التخييل أكثر، بسبب ما عرفته الأجناس الأدبية من تماس وتداخل بينها. وقد طرحت مؤخرًا للنقاش علاقة السيرة الذاتية والشعر، التي تأخر النقاش النظري والمعرفي حولها كثيرًا، بالرغم من أنه يخص السيرة الذاتية الشعرية أو الشعر السيرذاتي، واستعصى معه إمكان اكتشاف العلاقة بين السيرة الذاتية والشعر بشكل محدد وواضح، حيث ركز النقاد والدارسون على ربط السيرة الذاتية بالشعر والنثر، وأشاروا إلى بعض المحاولات التي اتخذت الشعر أداة لكتابة السيرة الذاتية، وسجلوا جملة من التحفظات المنهجية عليها. أما المؤلف فيناقشها بوصفها إحدى الإشكاليات النقدية الملحة، وذلك بعد أن بات المكون السيرذاتي يحتل مكانة جلية وواضحة في الشعر الحديث، لتتجاوز السيرة الذاتية الإخبار والتوثيق إلى الإبداع والبوح بخفايا الذات ومكنوناتها، وأصبح الشعر وما يستلزمه يخترق قواعد السيرة الذاتية، معلنًا إمكانية الائتلاف بينه وبينها، بما يعني أن الحياة يمكن كتابتها شعرًا مثلما يمكن كتابتها نثرًا، وبالتالي فإن العلاقة بين الشعر والسيرة الذاتية صارت تأخذ مسارات مختلفة داخل الوشائج التي تجمع بين ذات الكتابة والذات الواقعية، أو داخل العبور من الشكل السيرذاتي شعرًا إلى الشكل السيرذاتي نثرًا. وهذا الاختراق له أهميته التي تستلزم النظر، كونه يجسد واقعًا يتعارض مع قرون من تصنيف الأنواع وتراتبيتها والحفاظ على نقائها.
عنوان الكتاب: السيرة الذاتية: النوع وأسئلة الكتابة المؤلف: عبد اللطيف الوراري