أفلست كل الأفكار الأميركية الرامية لوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي دخلت السبت شهرها الثاني عشر. ومن غير المؤكد أن يصادف مقترح “الفرصة الأخيرة” الذي تحدث عنه مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية “سي آي إي” وليم بيرنز، حظاً من النجاح أفضل من مقترحات سابقة.
الأحداث تتوالى بوتيرة أسرع من جهود الاحتواء، وبعد أيام من العملية الإسرائيلية الواسعة “مخيمات صيفية” في مخيمات شمال الضفة، قتل ثلاثة حراس أمن إسرائيليين في عملية نفذها سائق شاحنة على معبر اللنبي بين الأردن والضفة الغربية المحتلة. ولن يتأخر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في توظيف الهجوم لتبرير رفضه الانسحاب من أي منطقة من مناطق الضفة، ولا سيما المحاذية للحدود مع الأردن، كما هو الحال مع “محور فيلادلفيا” في غزة. سيستخدم هجوم اللنبي ليعطي صدقية لتمسكه بـ”فيلادلفيا”.
وتحوّطاً حيال احتمالات الفشل، أكد بيرنز أنه تم الاتفاق على 90 في المئة من فقرات الاتفاق “لكن العشرة في المئة الأخيرة دائماً هي الأصعب”، في إشارة إلى الاستعصاء المتمثل في تمسك رئيس الوزراء الإسرائيلي بالبقاء عند “محور فيلادلفيا” الحدودي بين غزة ومصر، وتمسك حركة “حماس” بالانسحاب من هذا المحور، ورفضها لصيغة أميركية تقضي بتخفيف الانتشار العسكري الإسرائيلي على المحور، على أن تستكمل المفاوضات حول الانسحاب الكامل في المرحلة الثانية من الاتفاق. و”حماس” تصر على الانسحاب في المرحلة الأولى ليقينها أنه لن تكون هناك مرحلة ثانية، وأن نتنياهو سيستأنف القتال بعد المرحلة الأولى والإفراج عن عدد من الأسرى الإسرائيليين.
وتميل مصر إلى انسحاب إسرائيلي كامل في المرحلة الأولى، وتبحث مع الجانب الأميركي في نشر حواجز إلكترونية وأجهزة للإنذار المبكر، لكن إسرائيل اشترطت أن تشارك في البيانات التي ترسلها هذه الأجهزة، الأمر الذي لم توافق عليه مصر بعد الآن.
وتقرأ إسرائيل تصاعداً في الاستياء المصري من موضوع “فيلادلفيا”، وزيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لأنقرة الأربعاء، صبت في هذا السياق. وبعد يومين من القمة المصرية-التركية، خرج أردوغان ليصرّح بأن الخطوات التي اتخذتها تركيا في الآونة الأخيرة لتحسين علاقاتها مع مصر وسوريا، تهدف إلى “تشكيل خط تضامن ضد التهديد التوسعي المتزايد” لإسرائيل، والذي قال إنه يهدد أيضاً لبنان وسوريا. وزاد مقتل المتضامنة الأميركية من أصل تركي عائشة نور برصاص الجيش الإسرائيلي، من تدهور العلاقات التركية-الإسرائيلية.
كلام بيرنز عن مقترح “الفرصة الأخيرة”، تزامن مع تصريح مسؤول كبير في إدارة الرئيس جو بايدن لشبكة “سي إن إن” الأميركية للتلفزيون، قال فيه إن واشنطن “على علم بأن وزارة الدفاع والجيش الإسرائيليين يريدان إنهاء الحرب”، وأن “الجيش الإسرائيلي بحاجة إلى فترة راحة وتحضير لاحتمال فتح الجبهة الشمالية” مع لبنان.
وهذه المرة الأولى التي يربط فيها مسؤول أميركي بين وقف النار في غزة والتحضيرات لفتح الجبهة الشمالية. وهذا يستدعي التساؤل، هل يعني الكلام الأميركي إن إدارة بايدن صارت أكثر تقبلاً لدعوات إسرائيلية لشن حرب واسعة على لبنان؟
ومما يشجع الإدارة الأميركية على طرح مقترح “الفرصة الأخيرة”، هو تزايد أعداد المتظاهرين المتضامنين مع أهالي الأسرى الإسرائيليين بعد العثور على جثث ستة أسرى في نفق بجنوب غزة الأسبوع الماضي. أضحت هذه الأعداد بمئات الآلاف، لكنها لم تصل بعد إلى حجم الاحتجاجات التي تلت قرار نتنياهو بإقالة وزير الدفاع يوآف غالانت لمعارضته التعديلات القضائية التي اقترحها نتنياهو عام 2022، وانتهت إلى عودة رئيس الوزراء الإسرائيلي عن قرار الإقالة.
تسابق إدارة بايدن الزمن لوقف الحرب وتحاذر في الوقت نفسه توجيه انتقاد قاس لنتنياهو، قد يتحول سهماً مرتداً يلحق ضرراً بحملة هاريس في الأوساط اليهودية الأميركية المؤيدة للحكومة الإسرائيلية، في توقيت قاتل. والسناتور الديموقراطي البارز كريس فان هولن، رأى أن عدم انتقاد واشنطن نتنياهو علناً، منحه غطاءً سياسياً للمماطلة.
وفي خلفية الإلحاح الأميركي على وقف النار، أن الولايات المتحدة لا يمكنها الاحتفاظ بكل هذا الحشد العسكري في الشرق الأوسط، وسط الغليان في بحر الصين الجنوبي وحول تايوان والتصعيد في الحرب الروسية-الأوكرانية. ووحدها هدنة في غزة، يمكن أن تخفض منسوب التوترات الإقليمية هنا، وتجعل إيران تتراجع عن توجيه ضربة انتقامية لإسرائيل، رداً على اغتيال رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” في طهران في تموز (يوليو) الماضي.