المصارف تصلح لأن تكون حلقة الاستهداف الثانية، أما الحلقة الثالثة، وهي الأهم، فهي المنظومة السياسية والميليشياوية الحاكمة. فالنسبة الأكبر من المئة مليار دولار التي سُرقت هي في حسابات هؤلاء لدى المصارف الأوروبية. وبما أننا فشلنا في المواجهة في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، فما علينا إلا أن نخوض معركة موازية مع السرية المصرفية السويسرية.
مرة أخرى علينا أن نكرر حقيقة أن توقيف رياض سلامة ليس إنجازاً للقضاء في لبنان، فهذا الأخير واصل تواطئه على اللبنانيين طوال السنوات الخمس الفائتة، أولاً من خلال سكوته على الكابيتال كونترول غير القانوني الذي مارسته المصارف بحق المودعين، وثانياً لغضّه النظر عن تحويلات بمليارات الدولارات أقدمت عليها المصارف لمصلحة السياسيين.
أما وقد أُجبر القضاء على إصدار مذكرة توقيف بحق الحاكم السابق لمصرف لبنان، فعلينا والحال هذه أن نحدد الخطوة التي تليها، طالما أننا كمواطنين وكصحافيين وكناشطين فرضنا على المدعي العام المالي علي إبراهيم أن يسطّر لائحة اتهامية بحق سلامة، بعدما دوّت الفضيحة في أروقة القضاء الأوروبي. لم يستجب القضاء لضغوطنا، إنما استجاب للقضاء الأوروبي الذي نقلنا إليه ظلامتنا.
الحلقة الثانية في فضيحة الانهيار المالي في لبنان هي المصارف، إذ تربحت من سرقة الودائع أضعاف ما ربحه رياض سلامة. أكثر من ستين مصرفاً قامرت بودائع اللبنانيين والعرب وجنت أرباحاً خيالية طوال فترة الهندسات المالية، وعندما وقعت الواقعة وأُعلن الإفلاس حمّلت المودعين الخسائر، ونفضت أيديها من المسؤولية.
واصلت المصارف رذائلها بعد الانهيار، فأقفلت الفروع بوجه الناس لأسبوعين، وفتحت مراكزها الرئيسية للمسؤولين، واعترف الجميع بأن قيمة التحويلات خلال هذين الأسبوعين تجاوزت العشرة مليارات دولار.
هذا وصف للعمليات المصرفية الجارية بمعزل عن الكابيتال كونترول، أما عمليات تبييض الأموال ومراوغة القوانين والتلاعب الموثّق بالملكيات بمساعدة مصرف لبنان، فهذا شأن مواز يمكن أن يعوَّل عليه لفضح المصارف لدى القضاء الأوروبي، على نحو ما حصل مع رياض سلامة.
وإذا كان هناك من يروّج لمقولة good bank وbad bank، فإن مصرفاً لبنانيا واحداً لم يتعفف عن الحجز غير القانوني على الودائع، وبهذا المعنى لا good bank في لبنان، إنما هناك البنك السيئ والبنك الأسوأ.
لعل المصارف الخمسة أو الستة الكبرى تصلح لأن تكون عيّنة استطلاع، طالما أن انتهاكاتها موثّقة، سواء كانت تحويلات إلى الخارج، أو تلاعباً واستفادة غير قانونية من عطاءات رياض سلامة. بنك عودة على رأسها، وطبعاً بنك الموارد وعلى رأسه صاحب “الأيادي البيض” والمرشح الفاشل للثنائي الشيعي إلى الانتخابات النيابية مروان خير الدين، والـSGBL لصاحبه أنطون صحناوي، وشراكات آل الحريري مع رجل الأعمال اللبناني الأردني المصري علاء الخواجة في بنك البحر المتوسط، ناهيك بمصرفَي بلوم وسيدروس.
وثائق كثيرة غضّ القضاء اللبناني النظر عنها تدين هذه المصارف، وهي متوافرة ومتاحة لمن يريد أن يواصل المعركة. فأي فضيحة أكبر من إقدام مصرف الموارد على تحويلات موثّقة بملايين الدولارات لمصلحة ندي سلامة، نجل الحاكم السابق، في ذروة الكابيتال كونترول، وعلى هامش ذلك، التحويل، الموثق أيضاً، الذي لم ينفِ المدعي العام السابق غسان عويدات أنه استفاد منه عبر بنك عودة؟!
هذا غيض من فيض ارتكابات المصارف. وأي قاض يمكنه أن يسطّر ساعة يشاء، أي ساعة صحوة ضمير، مذكّرة توقيف بحق صاحب مصرف أو أعضاء في مجلس إدارته. هكذا يقول قانون النقد والتسليف.
وخلافاً لتوقيف سلامة الذي في حال قرر القاضي مصادرة أملاكه لمصلحة المودعين، فهي لن تتجاوز المليار دولار في أحسن أحوالها، فإن فتح باب محاسبة المصارف ستكون نتيجته ربما أكثر من عشرة أضعاف ما يمكن استعادته من رياض سلامة. هذا إذا وضعنا جانباً الثمانية مليارات دولار في حساب شركة “أوبتيموم”، والتي كشفها تقرير كرول، وإذا صح التوقع بأنها عملية إخفاء خسائر، فهذا يثبت أن سلامة تصرّف بهذا المبلغ وأراد إخفاء فعلته عبر “أوبتيموم”.
وكما مارس سلامة أقصى درجات الوقاحة عبر حياة البذخ خلال سنوات الانهيار وحتى اليوم الأخير له خارج السجن، فإن الـ”بنكرجية” لم يتعففوا عن التمتع بجنى أعمار اللبنانيين، وها هم في المنتجعات وفي المصايف الأوروبية يمضون أوقاتهم بعدما ضاق بهم بلد المودعين المفلسين.
المصارف تصلح لأن تكون حلقة الاستهداف الثانية، أما الحلقة الثالثة، وهي الأهم، فهي المنظومة السياسية والميليشياوية الحاكمة. فالنسبة الأكبر من المئة مليار دولار التي سُرقت هي في حسابات هؤلاء لدى المصارف الأوروبية. وبما أننا فشلنا في المواجهة في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، فما علينا إلا أن نخوض معركة موازية مع السرية المصرفية السويسرية.
فهناك ترقد ودائعنا.