بانتظار الرد الإسرائيلي على الرد الإيراني، وما ستؤول إليه الأوضاع في المنطقة، يبقى أن الأمور منفتحة على كافة الاحتمالات، وكذلك مشاعر الناس ومواقفهم، التي ترتبط بمعاناتهم وحجم التضحيات التي يقدمونها. هذا بينما ينتظر أنصار “حزب الله” إعلان تعيين الأمين العام الجديد وقيادة تعيد ضبط مشاعرهم وتوجيههم.
منذ تأكد خبر اغتيال إسرائيل الأمين العام ل”حزب الله” حسن نصرالله، برزت مشاعر غضب وحزن عند كثيرين في بيئة الحزب مترافقة مع انتقادات واسعة لإيران، وساد شعور عبّر عنه كثيرون سواء عبر فيديوهات شخصية أو عبر تعليقات عامة، بأن الجمهورية الإسلامية لم تقف إلى جانب “حزب الله” في الحرب التي أعلنها وخاضها ضد إسرائيل باسم محور الممانعة وراعيته إيران.
وراحت تنتشر بسرعة عبارة “فلتحترق طهران ويبقى الجنوب” عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مباشرة بعد اغتيال الأمين العام مساء الجمعة الماضي، وبدء إسرائيل بشن اعتداءات واسعة على الضاحية الجنوبية لبيروت وتهجير سكانها.
ترافقت هذه العبارة التي تداولها موالون لحركة “أمل” و”حزب الله” علناً على صفحاتهم الشخصية، مع انتشار نعوات لنصرالله من المفجوعين بقتله، تشير إلى أنه تعرض للخيانة والبيع وتُرك وحيداً في الساحة كـ”جدّه الحسين”، في إشارة إلى وقائع معركة كربلاء.
حتى أن البعض راح يشبه القيادة في إيران بأهل الكوفة، الذين دعوا الحسين بن علي إلى المعركة مؤكدين له قتالهم إلى جانبه، ثم تركوه وحيداً. كذلك بدأت نقاشات بين أبناء الصف الواحد حول دور إيران وعدم إسنادها الحزب. وهي المرة الأولى التي يظهر فيها الامتعاض من إيران بهذه الحدّة بين جمهور “حزب الله”، وتعبر فيها شريحة منهم عن خيبتها من أداء البلد المرجع، وشعورها بأنه تمّ بيعها في بازار المفاوضات الإيرانية- الأميركية.
رفع الصوت المنتقد لإيران، دفع بوجوه الدعاية الإعلامية ل”حزب الله” إلى محاولة ضبطه ومواجهته كي لا يمتد إلى جمهور “حزب الله” كله. وراح البعض ينشر رسالة موقعة من نصرالله يوصي فيها بالإيمان بقيادة المرشد علي خامنئي، تعود إلى شهر شوال من العام 1430 هجري، أي إلى العام 2009. فيما اتهم آخرون من ينتقد إيران بالخيانة أو بالانجرار وراء دعاية الصهاينة، بينما رفض غيرهم منطق التخوين هذا، مستندين إلى واقعة اغتيال نصرالله.
ثم أتى إطلاق إيران أكثر من 200 صاروخ باتجاه إسرائيل، ليثلج بعض الشيء قلوب مناصري “حزب الله” في لبنان، ويزيح شعور شريحة واسعة منهم بأن إيران قد خذلتهم في الأيام الماضية.
الحرس الثوري الإيراني ربط الرشقات الصاروخية التي أطلقها على إسرائيل، بالرد على اغتيال إسرائيل رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في طهران، والأمين العام ل”حزب الله” حسن نصرالله، وقائد الحرس الثوري في لبنان عباس نيلفروشان، في الضاحية الجنوبية لبيروت.
وأتى الرد الإيراني بعد أن ظهرت إيران مترددة وضعيفة بعد اغتيال هنية على أراضيها، وبعد الضربات القاسمة التي وُجهت إلى “حزب الله” في لبنان وعجزها عن إٍسناده، وهو ما رأه متابعون أنه أغرى إسرائيل بالتمادي إلى هذا الحد.
فرح أنصار “حزب الله” بالضربة الإيرانية ضد إسرائيل، لا يعني أن العتب على إيران قد انتهى، إنما هو رهن المقبل من الأيام، وقد يبرز مجدداً في حال ساءت الأوضاع أكثر على الساحة اللبنانية، ووجد هؤلاء أنفسهم وحيدين مجدداّ.
ما يعزز ذلك، أن إيران لم تخصّ نصرالله وحده بثأر موجع لإسرائيل متناسب مع ما ارتكبته من مجازر في الضاحية، طاولت إلى جانب نصرالله عدداً كبيراً من قيادات الحزب. ففي هذا الرد، حاولت إيران أن تسدد حساباً ثلاثياً في آن، في ضربة هي أقرب إلى محاولة ردع العدو عن الاعتداء على أراضيها، بعدما أظهر العدو بوادر استعداد لتوجيه ضربات لها.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، كان قد أعلن بعد اغتيال نصرالله نية إسرائيل تغيير الواقع في منطقة الشرق الأوسط، ودعمه الشعب الإيراني في رسالة موجهة إلى النظام. وكانت قد نقلت “رويترز” بعيد اغتيال نصرالله خبراً أفاد بنقل مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي إلى مكان آمن، ما أشار إلى خشية جدية متزايدة من تعرضه للاغتيال.
إذاً، ردت إيران بعدما وجدت أن تفاديها انتقال النيران إلى أراضيها هو الذي قد يشعل هذه النيران.
بعد إطلاق الصواريخ الإيرانية على إسرائيل تغيرت الصورة، راح البعض يعبر عن تراجعه عن موقفه ويدعو من انتقد إيران إلى حذف منشوراته إذ لم تعد صالحة. فيما بدأ آخرون باستخدام العبارات ذاتها التي طالت إيران وإسقاطها على أميركا وإسرائيل لانتقاد المواقف التي اعتبرت أن إيران باعت “حزب الله”، فقال بعضهم إن أميركا باعت إسرائيل.
في حديث إلى “درج”، وتعليقاً على ارتفاع الصوت المنتقد، الذي وصف إيران بالتخاذل في الأيام الماضية، يرى الكاتب الصحافي مصطفى فحص أنه ليس بالضرورة أن يكون السبب وراء ذلك “فعلاً حقيقياً بقدر ما هو مزاج شعبي يراقب كلام من راهن عليه تاريخياً، بأن يخوض معركة معه ومن يعتبره شريك الانتصارات”.
ويشير فحص إلى أن تصريحات المسؤولين الإيرانيين خلال الحرب، أحبطت الحاضنة الشعبية ل”حزب الله، بينما هي تقدم التضحيات وهزت ثقة المؤيدين بهذا الصف، إذ “شعروا أنهم لم يتلقوا سوى تصريحات لا معنى لها عن الضربة والتأديب ثم الصبر الاستراتيجي”.
ويتوقع فحص أن “هذه المشاعر قد تأخذ منحى آخر تصعيدياً لا يمكن ضبطه، إذا حصلت نكسة أخرى ميدانية لحزب الله”، ويؤكد أن “الناس صامتون الآن، لأن رهاناتهم العاطفية تحرك ولاءاتهم العقائدية، لكن في النهاية هناك موقفاً وهناك شيئاً مادياً ملموساً، إن لم تقف معي وأنا أنكسر، فسيأتيك العقاب عبر الحزن والغضب والانفصال”.
ويرجّح فحص أن “تتبلور ردة الفعل هذه أكثر، إلى درجة أنه قد يعجز الحزب والإيرانيون عن قمعها داخل الطائفة الشيعية”، بينما يرى أن “إيران لم تتخل عن حزب الله، لكن سياساتها وتصرفاتها كشفته أمام الإسرائيلي، الذي اكتشف بدوره أن طهران مكشوفة أمام الأميركي وأن قدراتها على التحرك محدودة”.
من جهته، يرى الباحث في معهد “كارنيغي” مهند الحاج علي، أن “الشعور بالخذلان كان شعوراً شعبياً لم يشمل القيادة، مردّه أن مؤيدي حزب الله توقعوا بأن لا تتركهم إيران في هذه المرحلة”، لكنه في الوقت ذاته، يعتبر أن “الشعور بالخذلان مناقض للواقع، بحكم أن هناك إيرانيين قضوا مع مسؤولي الحزب، كقائد فيلق القدس في لبنان وغيره”، ووفق الحاج علي فإن “إيران دولة قادرة، ولكنها كما حزب الله تعرضت لخروقات هائلة، ومن المتوقع أن تتعرض لهجوم إسرائيلي في المرحلة المقبلة”.
مآلات الحرب
في حين يظهر “حزب الله” مربكاً في هذه المرحلة، وتحول الاعتبارات الأمنية والتنظيمية دون انتخابه أميناً عاماً خلفاً لنصرالله، مما قد يرفع معنويات جمهوره ويمتص ردات فعله، تنقسم الآراء في لبنان بين من يعتبر أن الحزب بات ضعيفاً وبين من ينتظر أن يعيد ترميم نفسه.
ويعتبر الحاج علي أنه “من المبكر الحديث عن تبلور آثار سياسية لهذه الحرب، من دون رؤية مسارها في المرحلة المقبلة، ويطرح احتمالين: الأول، أن يتلقى حزب الله الضربة الإسرائيلية ويمتصها، وتستعيد قيادته قدرتها على التواصل مع قواعدها بشكل مقبول وغير قابل للاختراق الهائل الذي حصل مؤخراً، وأن يستطيع التنظيم تجميع قواه لتنفيذ ضربة ضد إسرائيل”، لكنه يرى أن “هذا الاحتمال بات ضئيلاً اليوم لكنه موجود”، أما الاحتمال الثاني، بحسب الحاج علي فهو أن “يواصل حزب الله تداعيه على المستوى العسكري وأن يفشل في مقاومة الغزو الإسرائيلي. عندها يُرجح أن نرى تشكيلاً أكبر لنقد إيران”.
ويضيف “إذا تعرضت إيران لضربة كبيرة تؤدي إلى انهيار في النظام نفسه وتحوله، عندها لكل حادث حديث، وستكون الضربة القاسمة لحزب الله في لبنان، فضلاً عن أن التغيير في إيران سينعكس على الأرض في لبنان بتبدل في إدارة الطائفة الشيعية، وهو ما يرجّح كفة رئيس مجلس النواب نبيه بري لقيادة المرحلة الانتقالية، بالاتفاق مع من تبقى من حزب الله، والاتجاه نحو لبننة الحالة تحت إطار القرار ١٧٠١ والنظام السياسي اللبناني”، ويتابع “هذا السيناريو الإيجابي يبقى احتمالاً، عندما ندرك أنه في لبنان هناك مجال للفوضى وللتشظي، ومن الممكن أن تتخذ الأمور منحى فوضوياً أكثر، وهو الأرجح في المرحلة المقبلة”.
في الأشهر السابقة للتصعيد الإسرائيلي الكبير ضد “حزب الله” ولبنان، كانت إيران قد خفضت كثيراً من حدّة تصريحاتها، وراحت تؤكد أنها لا تريد الحرب وأنها تسعى لاستقطاب مئة مليار دولار من الاستثمارات الخارجية.
وفي اليوم الذي تلا توسعة إسرائيل غاراتها الجوية في البقاع والجنوب وتهجير السكان، خرج وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، في 23 أيلول/ سبتمبر الماضي، ليعلن استعداد بلاده لبدء مفاوضات نووية، وذلك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
في لبنان اعتبرت شريحة من جمهور الحزب الإعلان خذلاناً لها وتفاوضاً على دمها. الوضع الصعب على الأرض وعدم قدرة الحزب على ردع إسرائيل دفع يومها بالحديث عن الحاجة إلى تدخل إيراني. خرج خامنئي وغيره من المسؤولين ليأكدوا أن الحزب منتصر وقادر على مواجهة إسرائيل وحده، ليأتي اغتيال نصرالله في ال27 من أيلول/ سبتمبر الماضي، مع ما رافقه من تصعيد إضافي ويشكل انتكاسة.
يوافق الباحث في معهد “كارنيغي” مهند الحاج علي أن هذه المواقف قد طمأنت نتانياهو وشجعته على التصعيد بشكل كبير ضد “حزب الله”، وصولاً إلى اغتيال أمينه العام وما تلاه، لكنه يلفت إلى أن “إسرائيل قد جهزت جيداً ومنذ سنوات لاستهداف حزب الله، وهي لم تكن لتترك عملها يذهب سدى”.
وبرغم أن مواقف إيران قد أضعفت موقف “حزب الله”، يلفت الحاج علي إلى أن “الحزب في حالة حرب والمسألة الأساسية بالنسبة إليه لها علاقة بالتنظيم نفسه وقدرته على التماسك والتواصل”، ويقول: “لاحقاً إن انتهت الحرب من دون هزيمة التنظيم بالكامل، وإذا استطاع تمثيل حالة مغايرة وهيكلة نفسه لحفظ خط الرجعة، عندها من الممكن أن نجد نوعاً من التحدي على مستوى الحديث عن فشل الإيرانيين وغيره، وهو ما نشاهده في الحالة الشعبية، التي ترى أن الإيرانيين لم يقفو إلى جانبهم وتركوهم، ويعتبرون أن إيران تخلت عن الحزب، وهو عملياً أداة بيد إيران، وهذا كله سيلعب على مستوى السردية اللبنانية وعلى مستوى إيران، ومن الصعب توقع كيف ستتشكل السردية الجديدة، وكيف ستتكامل الصورة بعد الحرب”.
وبانتظار الرد الإسرائيلي على الرد الإيراني، وما ستؤول إليه الأوضاع في المنطقة، يبقى أن الأمور منفتحة على كافة الاحتمالات، وكذلك مشاعر الناس ومواقفهم، التي ترتبط بمعاناتهم وحجم التضحيات التي يقدمونها. هذا بينما ينتظر أنصار “حزب الله” إعلان تعيين الأمين العام الجديد وقيادة تعيد ضبط مشاعرهم وتوجيههم.
عينة من المواقف والنقاشات المرافقة لها