أذكر في أحد أشهر المسلسلات العربية، تم إقحام شخصية فلسطينية ضمن المسلسل وكانت امرأة عندما تذكر جنسيتها ينغمر الآخرون بالحزن أو الألم، بل إن إحدى شخصيات المسلسل كانت كلما تراها تبكي، وعند زفافها كانت الأجواء حزينة وأغنية فيروز الشهيرة “زهرة المدائن” الخلفية الموسيقية للزفاف الوقور، فضلا عن شخصية الفلسطينية الواجمة تعبيرا عن الحزن وجديتها في قضيتها.
المسلسل كان شهيرا بالفعل وأذيع في بداية تسعينات القرن الماضي، أي بعد مرور أكثر من أربعة عقود على النكبة، رغم هذا لم تنضج تصوراتنا حول الفسلطينيين واستمرت قولبتهم بشكل سطحي ضمن الملتزم بقضيته أو الضحية أو الانتهازي في حال خالف توقعاتنا.
ربما علينا إعادة النظر في هذه التصورات السطحية المخلة وتعريف الفلسطينيين والتزامنا نحو القضية الفلسلطينية بشكل مختلف يبتعد عن الثنائيات الحادة، فالفلسطيني يكافح للبقاء وليس صامدا رغبة ومحبة، فهذا الواقع فرض عليه وهي معاناة لا يتمنى أحد أن يعيش فيها. هكذا نراهم بكل رغبتهم الجارفة في الحياة مثل بقية البشر وكذا خوفهم على أحبائهم خاصة أبناءهم يتنقلون من مكان لمكان خشية القصف، نحو المستشفيات أو المدارس أو من منطقة خطرة لأخرى أقل خطورة.
ككل البشر أثناء الحروب، تحركهم مشاعر الخوف ويحطمهم تلاشي حياتهم المستقرة وإن كانت متواضعة وضياع الأحلام الصغيرة والأسوأ شعورهم بفقدان أحبتهم، وافتقاد حياة ألفتهم وألفوها. الحرب جحيم دون أدنى مبالغة ولا يمكن تصوير من يكتوى بنيرانها بأنه صامد، وكأن الحرب قد تكون خيارا لأي إنسان طبيعي، لكنها دوما كلفة باهظة يتحمل ثمنها القاسي، سواء آمن بضرورتها أو عدمه، وهنا يصبح الأمر سيان عند النظر لمعاناة البشر.
وفي المقابل، هناك صورة الضحية المغلوب على أمره، وهذه أقصى درجات الإنسانية للإعلام الغربي، فالفلسلطيني إما إرهابي قرر دون سبب واضح قتل الإسرائيليين، هنا تكمن التفسيرات في ثقافة العنف والكراهية ويقع الدين الإسلامي في قلب هذا الهجوم الهوياتي، لذا ليس من العجب أن تترافق هذه الحملة مع تصاعد الإسلاموفوبيا.
خطورة تكريس التوحش ومنطق الغاب نرى تبعاته واضحة على منطقتنا، ولم تكن يوما محدودة بحدود جغرافيا فلسطين كما لم تنظر إسرائيل يوما لفلسطين بمعزل عن بعدها الحضاري والإقليمي، مدركة أن بقاءها يتطلب فرض هيمنتها المرهون بضعف كل القوى السياسية الموجودة في منطقتنا العربية
وثمة الفلسطيني الطيب الضحية الذي يدفع ثمن صراع فرضته مجموعة من المتطرفين، هكذا يصبح الموت أمرا لا بد منه للفسلطيني حتى لو لم يعان من إشكالية العنف والكراهية المتجذرة في قيمه وثقافته.
الضحية شخص تصادف وجوده في صراع أو حادث دون سياق تاريخي وسياسي لهذا الصراع، قد يكون الضحية شخصا تصادف وجوده في مكان وقع فيه زلزال أو حادث غرق سفينة، فارق بين الضحية العادية وضحية حرب شنت على ناس بسبب وجودهم على أرضهم، وهم ضحايا لأنهم قرروا المقاومة في أبسط أشكالها وهو التمسك بالبقاء على هذه الأرض والحياة فيها بشكل طبيعي.
ما بين الصامد وكأنه ليس إنسانا بأحلام ومخاوف طبيعية وبتصورات بطولية تتجاهل المعاناة الإنسانية المفزعة والانتهاك الصارخ لحياة وأحلام الناس العاديين، وصورة الضحية وكأن هذا الإنسان الذي يتعرض لعملية اجتثاث وجودي بهدف الإبادة والترحيل، مجرد من الحقيقة السياسية والتاريخية التي تقف خلفه وهي قضيته التي يقاوم لأجلها.
الفلسطيني الآن إنسان فرضت عليه وقائع الجغرافيا والتاريخ أن يكون في قلب صراع على وجوده وبقائه، وما بين رغبته الإنسانية في الحياة بشكل طبيعي وكذا اضطراره للخوض في صراع ومقاومة، ولكي نوازن أنفسنا تجاه ما يجري، علينا أن لا نعفي أنفسنا من مسوؤلية ما جرى لأن هناك أبطالا صامدين مختلفين عنا موجودين في فلسطين، فالبطل شخص غير عادي لا ننتمي له غالبا، والضحية إنسان لا نملك فعل شيء تجاهه سوى التعاطف وتقديم المساعدة.
ضبط تعريفنا هو أيضا ضبط لعلاقتنا بالقضية الفلسطينية، التي تتجاوز العواطف الإنسانية ومفاهيم الحق والعدالة التي تدفع الكثيرين من مشارق الأرض ومغاربها ليتضامنوا معها. فلا ينبغي أن نتوهم أن آلة التوحش الإسرائيلية ستقف عند حدود غزه أو فلسطين دون انعكاسات علينا.
خطورة تكريس التوحش ومنطق الغاب نرى تبعاته واضحة على منطقتنا، ولم تكن يوما محدودة بحدود جغرافيا فلسطين كما لم تنظر إسرائيل يوما لفلسطين بمعزل عن بعدها الحضاري والإقليمي، مدركة أن بقاءها يتطلب فرض هيمنتها المرهون بضعف كل القوى السياسية الموجودة في منطقتنا العربية.
الفلسطيني ضحية صراع لم يختره، هو لا يبحث عن أدوار البطولة التي تنتزع إنسانيته بكل رغباتها وأحلامها وضعفها، لكنه أيضا مستمر منذ أكثر من سبعة عقود لأنه قرر المواجهة ومقاومة ما يراد له، بالتالي لا ينبغي النظر له كمجرد ضحية لا حول له ولا قوة، أو بطولة بلا إنسانية، وما بين هذين الأمرين لا ينبغي لنا نزع إنسانيته أو انتزاع سياقها التاريخي الذي تقع فيه فلسطين وقضيتها بالقلب.