عاش المثقف السعودي صالح المنصور حياة مليئة بالإثارة والتحديات. قضاها كمثقف يرى أن الحياة نافذة على الناس، وأن حياته تخصه وحده ولا تعني سواه. بفكره ورؤيته وبمبادئه ذات الحمولات الثقافية فرض وجوده واحترامه وإيمان الآخرين بشخصيته حتى أولئك الذين اختلفوا معه.
ظلت حياته نداءات مُلحّة على ذهنية الأدباء والمثقفين لكثرة مشاركاته وحضوره الدائم لفعالياتهم، وأماسيهم على مدار الثلاثة عقود الأخيرة من عمره، ما يؤكد احتشاد الناس الدائم حوله في معارض الرياض للكتاب بجميع دوراته التي حضرها، ولأنه مختلف ومميز في لباسه وملامحه الطيبة، غدا أيقونة ثقافية تراها في جميع المهرجانات الثقافية المحلية منها والدولية.
واليوم وبعد مرور سبع سنوات على وفاته، أتذكر تلك المرة الأولى التي التقيته فيها. ولم أتوقع أنها ستكون المرة الأخيرة في حياتي. إذ إنه توفي بعدها بأشهر إثر حادث دهس في أحد شوارع الرياض يوم 3 أكتوبر/تشرين الأول 2016، عن عمر ناهز الستين عاما.
مات في أحد شوارع الرياض التي عشقها وقطعها طولا وعرضا متوكئا على عصاه المحفورة من أسفلها نتيجة مشاويره اليومية في أحيائها القديمة محتفيا بالأمس، ومتخذا من الخيال حضارة مفتوحة أمام عينيه لا يراها سواه.
عاش المنصور بحلم السفر إلى الاتحاد السوفياتي وحينما تحقق له ذلك عاد بذهن أكثر اتساعا كما لو أنه رأى الشيوعية الواقعية بعينيه ثم طابقها مع أفكاره ورؤاه، أو مع ما قرأه عنها في كتب أتباعها وسيرهم ككتاب لينين “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية” الذي يعد أهم تحليل للفترة التاريخية التي تلت الحرب العالمية الأولى. فلاديمير لينين من أكثر الشخصيات التي اهتم بها المنصور بل وظل يرددها في جميع الحوارات التي أُجريت معه باعتباره من وجهة نظره: الشيوعية الاشتراكية المكتملة في صورتها.
يمكنني القول اليوم إن المنصور حقق في حياته جزءا من أمنياته وبالتحديد حينما تناوله الشاعر السعودي إبراهيم الوافي في روايته “الشيوعي الأخير” التي سلّط فيها الضوء على أجزاء من مسيرته، وسيرته الحافلة لتزداد بعد نشرها شهرته وتتحول إلى فيلم سردي مقروء يحق لها اليوم أن تغدو فيلماً سينمائياً يتمحور حول الخلفية الكاملة الشاملة لأدق تفاصيل حياته المتشعبة والمتصارعة والمليئة بالتحديات والمتغيرات.
نادى المنصور في حياته برؤى سياسية يمكن اعتبارها اليوم نبوءة “بريكس” من مثقف رأى أن العرب إذا ما توجهوا للشرق “روسيا والصين” كان لهم أفضل
نادى المنصور في حياته برؤى سياسية يمكن اعتبارها اليوم نبوءة “بريكس” من مثقف رأى أن العرب إذا ما توجهوا للشرق “روسيا والصين” كان لهم أفضل؛ نتيجة ما يعانيه الغرب من أساليب قائمة على النفعية والمصالح المقدمة على جميع القرارات الدولية. ليس هذا فحسب بل ما زال الكثيرون يرددون أقواله بعد وفاته.. كقوله: “لا أنسى ثمانية وتسعين موضعا في القرآن الكريم ترمز وتوحي وتأمر بالعمل والتدبر والتفكير لكن للأسف نقرأ ونحفظ القرآن الكريم ونترك الأهم وهي أوامره باحترام الأديان. المتدين الحقيقي بالمعنى الفلسفي هو من يجدّ في طلب الحقيقة ويفكر فيها ويحبها، لا أن يستخدم العلم ونتائجه ويناهض الذي صنعها.. هذا جهل”.
عكف المنصور في أيامه الأخيرة على مشروعه الروائي الخاص به كما لو أنه أراد أن يقول ما لم يقله عنه (إبراهيم الوافي) واختار عنوان “شيوعي الرياض” لروايته التي ستتناول سيرته المكتملة وأعلنه أمام الملأ معترفاً بأن ما كتبه (الوافي) هو الذي دفع به وحفزه لإنهاء روايته التي أراد أن يتناول فيها إلى جانب سيرته “صورة المجتمع السعودي عندما كان يعاني من العزلة، قبيل انتشار وسائل الاتصال”.
رحل المنصور بعدما ترك آثاراً وأمنيات للمهتمين بحياته أهمها قراءة روايته “شيوعي الرياض” التي لا يعلم أحد هل انتهى منها أم مات دونها. ولعلها بادرة أملٍ في أن تتولى وزارة الثقافة ممثلة في هيئة الأدب والنشر والترجمة هذا المشروع، أو إقامة احتفاء بتجربته ولو بأثرٍ رجعي؛ نتيجة ما مثله طوال مسيرته من العناية بالثقافة.
ما زال هنالك الكثير من أوراق “الشيوعي الأخير” لم تظهر بعد، وليتها تبرز للعلن، ليعرف الناس جوانبه الأخرى التي لم تُعرف عنه. ويمكن لهذا المشروع أن يُنجز من قبل المؤسسات الثقافية الربحية وغير الربحية أو الجهات المخوّلة بالبحث عن الإرث الثقافي الوطني الذي تركه المنصور أو غيره من الأدباء والمبدعين السعوديين بعد وفاتهم.
بات إذن من المؤكد أن البحث في تركة المنصور الثقافية سيخرج لنا الكثير من محفوظاته ومخطوطاته وأسرار حياته التي أفناها في أزقة الثقافة ودهاليزها حتى خبرها وصار ذاكرة للكثير من روادها.