طوال 60 عاما من عمر الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، شهد مشروع الكيانية الفلسطينية كثيرا من الأطوار والتحولات في الفكر السياسي الفلسطيني، نتيجة تغير المعطيات العربية والدولية المحيطة المتعلقة بالصراع ضد إسرائيل. وتاليا بنتيجة تولد قناعة لدى القيادات الفلسطينية بالاختلال الفادح في موازين القوى، لصالح إسرائيل، إضافة إلى أن ثمة محددات وقيودا عربية ودولية لا تتيح للفلسطينيين استثمار معاناتهم وتضحياتهم وبطولاتهم في إنجازات سياسية، ما يتطلب منهم تكييف أهدافهم وأشكال عملهم مع تلك المحددات والقيود.
وكما شهدنا، ففي تلك الفترة انتقلت العلاقات العربية-الإسرائيلية، من حالة العداء، أو الصراع، إلى حالة القبول، أو الاعتراف، وتحولت من الجدال حول ملف 1948، أي ملف النكبة، بما فيه إقامة إسرائيل وولادة مشكلة اللاجئين، إلى ملف 1967، أي ملف إنهاء الاحتلال، والصراع على شكل وجود إسرائيل فقط. وفي تلك الفترة، أيضا، انتهى عالم القطبين، وباتت الولايات المتحدة، هي القطب المهيمن دوليا وإقليميا، كقوة عظمى وحيدة، أو بين عدة أقطاب، مع تموضع إسرائيل كدولة تحظى بضمانة الغرب لأمنها وتفوقها من مختلف النواحي.
من مشروع التحرير إلى مشروع الدولة
وكانت الحركة الوطنية الفلسطينية، التي تأسّست قبل حرب يونيو/حزيران 1967، نشأت على هدف “التحرير”، ورفض كل الحلول البديلة عن ذلك، باعتبارها تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، وشمل ذلك رفض قرار “تقسيم فلسطين” (1947)، ورفض الاعتراف بإسرائيل، علما أن هدف التحرير في الفكر السياسي الفلسطيني، آنذاك، اشتمل على حق العودة وتقرير المصير وإقامة دولة فلسطينية من النهر إلى البحر.
وقد يفيد التذكير هنا أن هدف التحرير، حمل في أواخر الستينات معنى إقامة دولة ديمقراطية علمانية في فلسطين التاريخية، لكن تلك الحمولة لم تكن ناضجة أو راسخة في التفكير السياسي الفلسطيني، بقدر ما طرحت لشرعنة الحركة الوطنية الفلسطينية دوليا.
بيد أن التغيّر النوعي في التفكير السياسي، والخيارات الوطنية للفلسطينيين، بدأ في عام 1974، أي بعد عقد تقريبا على انطلاقة حركتهم الوطنية، إذ تم في حينه إقرار برنامج “النقاط العشر” في الدورة (12) للمجلس الوطني (القاهرة 1974)، بتأثير من التداعيات الناجمة عن حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، والعلاقة مع الاتحاد السوفياتي آنذاك.
هكذا، فمنذ ذلك الحين تبنت الحركة الوطنية الفلسطينية ما عرف بالبرنامج المرحلي، بالتحول، أو بالنكوص، من هدف التحرير إلى هدف إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع المحتلين (1967)، أي في جزء من الأرض لجزء من الشعب، مع جزء من الحقوق الوطنية، كمحاولة للتعاطي مع الجهود السياسية العربية والدولية المتعلقة بالتسوية. وفي حينه اعتبر آخرون أن هذا التحول هو دليل نضج في الحركة الوطنية الفلسطينية، وتعبير عن التحول من الإرادوية والراديكالية إلى الواقعية في الفكر السياسي الفلسطيني، علما أن هذا التحول خلق أول انشقاق في الوعي السياسي للفلسطينيين وحركتهم الوطنية.
التغيّر النوعي في التفكير السياسي، والخيارات الوطنية للفلسطينيين، بدأ في عام 1974، أي بعد عقد تقريبا على انطلاقة حركتهم الوطنية، إذ تم في حينه إقرار برنامج “النقاط العشر”
بيد أن التحول الأعمق، أو الأكثر حدة، في الفكر الكياني الفلسطيني تم بعقد اتفاق أوسلو (1993)، وإقامة السلطة الوطنية، في الضفة والقطاع، وفقا للشروط الإسرائيلية، التي من ضمنها تقسيم أراضي الضفة إلى ثلاثة مناطق، تبعا للتابعية السلطوية بين إسرائيل والمنظمة، وتأجيل البتّ في قضايا الاستيطان والحدود والقدس وماهية الحل النهائي. ولعل الفكرة الأساسية في تمييز هذا التحول، عن سابقه، تكمن في اعتراف القيادة الفلسطينية بإسرائيل، من دون أي اشتراطات، باستثناء القضايا المطروحة على المفاوضات النهائية، وأيضا أن ذلك التحول ظل مجرد طرح سياسي في حين أن التحول الثالث، المتمثل في اتفاق أوسلو، كانت له تجسداته العملية في إنشاء كيان السلطة، التي باتت بمثابة مركز العمل الوطني الفلسطيني على حساب “منظمة التحرير”، التي كانت تعتبر بمثابة الكيان السياسي المعنوي، أو الرمزي، الذي يعبر عن الفلسطينيين جميعا وقضيتهم الكلية.
في المحصلة، فقد كان اتفاق أوسلو (1993) بمثابة “فخ” للحركة الوطنية الفلسطينية، أو بمثابة قفص لطموحاتها الكيانية، إذ نشأ عن ذلك مجرد كيان سياسي محدود السيادة، وتحت سلطة الاحتلال، وفي حين تم تهميش “منظمة التحرير” فإن مشروع الدولة الفلسطينية بات في حالة استعصاء، أو في حالة خنق، بسبب الوقائع التي خلقتها الحكومات الإسرائيلية، وخاصة حكومات نتنياهو، التي تتبنى عقيدة تقويض البعد الفلسطيني في أية تسوية، مع تكريس هيمنة إسرائيل من النهر إلى البحر، وتعزيز الاستيطان في الضفة، وفصل غزة عنها، وهذا ما يفسر كل ما يجري في الأراضي المحتلة في الضفة والقطاع، وضمنه حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة منذ قرابة عامين.
الدولة الديمقرطية والكيانية وما بعد التحرير
لم تظهر فكرة الدولة الواحدة الديمقراطية العلمانية، في الفكر السياسي للفلسطينيين، مع بداية انطلاق حركتهم الوطنية، وإنما ظهرت في أواخر الستينات، في بعض التصريحات والبيانات، وبعض مقررات دورات المجلس الوطني، لأن تلك الحركة كانت تتعاطى بنوع من الإنكار لواقع إسرائيل، وعدم الاعتراف بها، وبالمجتمع الإسرائيلي، باعتبار أن أي مقاربة بهذا الاتجاه قد تثير الشبهات، وقد توحي بإضفاء الشرعية على إقامة إسرائيل على حساب الحقوق الوطنية والتاريخية لشعب فلسطين. ولعل الفقرة الوحيدة التي جاءت في هذا الإطار هي ما تضمنه ميثاق المنظمة (القومي والوطني) باعتبار “اليهود الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى بدء الغزو الصهيوني لها، يعتبرون فلسطينيين”.
لكن تصاعد المقاومة الفلسطينية، وانفتاحها على الأفكار اليسارية والتقدمية، التي كانت سائدة في الستينات والسبعينات، وتوسّع عملها في مجال الرأي العام العالمي، وحاجتها لجلب التعاطف مع قضيتها، جعل من الضروري إدخال تغييرات على الفكر السياسي الفلسطيني، فيما يتعلق بالموقف من اليهود، والتمييز بينهم وبين الصهيونية، وبما يتعلق بتصور الحركة الوطنية الفلسطينية للمستقبل، وضرورة الانفتاح على القوى اليهودية غير الصهيونية.
أ ب أ ب
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتحدث مع وزير المالية بتسلئيل سموتريتش خلال الجلسة الأسبوعية لمجلس الوزراء، 7 يناير
وقد تمثل هذا التطور، كبير الأهمية، في نص قرار الدورة السادسة للمجلس الوطني (القاهرة-1969)، بأن “هدف الكفاح الفلسطيني… إعادة الشعب الفلسطيني إلى وطنه، وإقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني بعيدة عن كل أنواع التمييز العنصري والتعصب الديني…”. وفي الدورة السابعة (القاهرة-1970) باعتبار أن “هدف النضال الفلسطيني هو تحرير فلسطين كاملة ضمن مجتمع يتعايش فيه جميع المواطنين بحقوق وواجبات متساوية”. وقد تكرّر ذلك في الدورة الثامنة (القاهرة-1971)، بشكل لافت، وفق الآتي: “إن الكفاح الفلسطيني المسلح ليس كفاحا عرقياً أو مذهبياً ضد اليهود. ولهذا، فإن دولة المستقبل في فلسطين المحررة من الاستعمار الصهيوني هي الدولة الفلسطينية الديمقراطية التي يتمتع الراغبون في العيش بسلام فيها بنفس الحقوق والواجبات”.
وبدءاً من الدورة 13 للمجلس الوطني، أي بعد تبني “البرنامج المرحلي” بدأت تطرح الأفكار بشأن العلاقات مع القوى اليهودية اللاصهيونية، إذ تم وقتها استصدار قرار يؤكد على “أهمية العلاقة والتنسيق مع القوى اليهودية الديمقراطية والتقدمية المناضلة داخل الوطن المحتل وخارجه ضد الصهيونية كعقيدة وممارسة”. وتم التعبير عن ذلك في الدورة 15 (دمشق-1981) بالآتي: “يؤكد المجلس الدور الإيجابي الذي تؤديه القوى الديمقراطية والتقدمية اليهودية المعادية للصهيونية عقيدة وممارسة في الوطن المحتل معترفة بـ”منظمة التحرير” باعتبارها ممثلا شرعيا ووحيدا لشعبنا وبالحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، بما في ذلك حق العودة وتقرير المصير وإقامة دولته المستقلة فوق ترابه الوطني، فإنه يدين أي اتصال يجري مع الأطراف التي تنتهج الصهيونية عقيدة وممارسة”.
إشكالية الرفض والشرعية الكيانية
بيد أن من أهم الدلائل التي تعزّز فكرة الكيانية الوطنية الفلسطينية وقتها، حذف المادة (24) من “الميثاق القومي الفلسطيني” في بديله “الميثاق الوطني الفلسطيني”، التي كانت تنصّ على عدم ممارسة “المنظمة أﻳﺔ ﺳﻴﺎدة إﻗﻠﻴﻤﻴﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﻀﻔﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ في المملكة اﻷردﻧﻴﺔ اﻟﻬﺎﺷﻤﻴﺔ. وﻻ قطاع ﻏﺰة وﻻ ﻣنطقة الحمّة”، وأن نشاط المنظمة هو فقط “ﻋﻠﻰ المستوى القومي اﻟشعبي في الميادين اﻟﺘﺤﺮﻳﺮﻳﺔ والتنظيمية واﻟﺴﻴﺎﺳية والمالية”. (!) وهذا طرح غريب عن حركة وطنية فلسطينية، لكن يمكن فهمه كمناورة لكسب الشرعية وحق الوجود لحركة وطنية تعمل خارج أرضها.
وفي الواقع فقد شكلت هذه المادة ثغرة كبيرة في التفكير السياسي للفلسطينيين، وعبرت عن تخلّيهم عن حقهم ومسؤوليتهم على أرضهم. وربما يصعب الآن تخيّل واقع سمح فيه النظام السياسي بتمكين الفلسطينيين من إقامة كيان لهم في الضفة والقطاع، قبل الاحتلال (1967)، وكم كانت مثل هذه الصورة الافتراضية ستؤثر على مكانتهم عربيا ودوليا، وعلى تصوراتهم عن أنفسهم.
على أية حال، فبعد الاحتلال بات من الجائز، والمتاح، سد تلك الثغرة في الفكر السياسي الفلسطيني، لصالح تأكيد حق الفلسطينيين في أرضهم، لكن ذلك جرى بعد فوات الأوان، وبأثمان باهظة جدا، بشرية ومادية وسياسة، وفي ظل استحالة واقع عربي ودولي وإسرائيلي.
من كل ذلك يمكن ملاحظة أن كثيرا من التحولات عكست الاضطراب الحاصل في الفكر السياسي الفلسطيني، الناجم عن تغير الظروف والمعطيات الفلسطينية والإسرائيلية والعربية والدولية، لغير صالح الحقوق الوطنية الفلسطينية، ما كشف عن تناقضات كبيرة، بين الطموح والواقع، وبين العدالة والامكانيات، وبين الحق والقدرة على استحقاقه.
حكومة نتنياهو-سموتريتش-بن غفير، تمضي في نهجها الرامي لتصفية أي بعد فلسطيني في التسوية، أو في الهندسة الإقليمية للمنطقة، بالوسائل السياسية والاقتصادية كما بالاستيطان، وبقوة السلاح
مثلا، في أواخر الستينات وأوائل السبعينات كانت التوجهات الفلسطينية السائدة تنص صراحة على رفض كل الحلول البديلة عن تحرير فلسطين تحريرا كاملا، كما كانت تدعو إلى صدّ “الدعوات المشبوهة لإنشاء كيان فلسطيني مزيف… في الأراضي المحتلة، بعد عدوان 5 يونيو”، باعتبار أن ذلك يعطي “الشرعية والديمومة لدولة إسرائيل، الأمر الذي يتناقض كلياً مع حق الشعب العربي الفلسطيني في كامل وطنه فلسطين… هذا بالإضافة إلى خلق إدارة عربية فلسطينية عميلة في الأراضي المحتلة بعد 5 يونيو، تستند إليها إسرائيل في التصدي للثورة الفلسطينية”. (الدورة الرابعة للمجلس الوطني الفلسطيني القاهرة-1968)، وبالتالي مواصلة “النضال ضد كل مشروعات التسوية التي تستهدف تصفية قضية شعبنا في تحرير وطنه، أو مسخ هذه القضية بمشروعات الكيانات أو الدولة الفلسطينية، على جزء من أرض فلسطين”. (الدورة العاشرة، القاهرة-1972)
بيد أن القيادة الفلسطينية ذهبت إلى عقد اتفاق أوسلو، وإقامة سلطة فلسطينية، هي أقل من دولة، وهو ما أقره المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الـ21 المنعقدة في رام الله (1996)، ثم عاد وكررها في آخر دورة عقدها (د.23-رام الله-2018) التي وصل بها إلى حد مراجعة كل ما سبق، بتأكيده على أن “علاقة شعبنا ودولته مع إسرائيل، هي علاقة تقوم على الصراع بين شعبنا ودولته الواقعة تحت الاحتلال، وبين قوة الاحتلال، ويدعو إلى إعادة النظر في كافة الالتزامات المتعارضة مع ذلك… والهدف المباشر هو استقلال دولة فلسطين، ما يتطلب الانتقال من مرحلة سلطة الحكم الذاتي إلى مرحلة الدولة التي تناضل من أجل استقلالها، وبدء تجسيد سيادة دولة فلسطين بعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من يونيو 1967”.
أ ف ب أ ف ب
الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والرئيس الأميركي بيل كلينتون ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين أثناء توقيع اتفاق أوسلو للسلام في حديقة البيت الابيض في 13 سبتمبر 1993
مع ذلك، أي مع كل تراجعات ومراجعات الفكر السياسي الفلسطيني، ومع كل التقديمات لنيل ثقة المجتمع الدولي، وثقة إسرائيل، فإن هذه تمضي في مصارعة الفلسطينيين على كل شبر في كل فلسطين، من النهر إلى البحر، وضمن ذلك، فهي في ظل حكومة نتنياهو-سموتريتش-بن غفير، تمضي في نهجها الرامي لتصفية أي بعد فلسطيني في التسوية، أو في الهندسة الإقليمية للمنطقة، بالوسائل السياسية والاقتصادية كما بالاستيطان، وبقوة السلاح.
وسيظل هدف الدولة الفلسطينية مشروعا في أجندة القيادة الفلسطينية، وفي الأجندة الدولية، لكن ذلك سيبقى في حالته كمشروع، على الأقل في المدى المنظور.
+ / –
font change
حفظ
شارك