أي سوريا هي التي تولد اليوم؟ هل هي ولادة فعلية، أم أنها نتيجة طبيعية لعقود من الخوف في جمهورية متوحشة..لم تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد؟ ومن أين يأتي ذلك الدم الذي يلطخ أيدي السوريين منذ هروب طاغيتهم السابق بشار الأسد وتفكك جيشه..حتى بات يقال أن النظام الاسدي دام نصف قرن لأنه كان أفضل ما يستحقه الشعب السوري العليل، الذي لا يحكم بغير الطغيان، وما زال يقال أن فراره هو العقاب الأخير الذي أراد أن ينزله على مواطنيه غير الاوفياء.
لم يكن أحد يتوقع أن يتصرف الاشقاء السوريون، بعد تحررهم من الطاغية، مثل أي شعب اسكندنافي، فيعلنها ثورة مخملية على الدكتاتورية، ويشرع على الفور في إعادة تركيب المجتمع المشرذم، وبناء الدولة الضائعة، وبناء السلطة العادلة، المدنية، الديموقراطية. لكن لم يخطر في البال ان تستلهم سوريا النموذج اللبناني الأقرب والابشع، وربما أيضا النموذج العراقي الملهم، وأن تنفجر من الداخل على هذا النحو المخيف، الذي لا يؤدي إلا الى المزيد من الموت والخراب.
أكثر من ثمانية أشهر مرت على التغيير الذي لم يسبق له مثيل في أي بلد آخر في العالم، والذي لا يزال يشكل واحداً من أكبر الألغاز السياسية والعسكرية في تاريخ سوريا والمشرق العربي: ما هي الصفقة التي تمت بين روسيا وتركيا، وقضت بمنح الأسد صفة اللاجىء، ومنح أحمد الشرع صفة الحاكم؟ وما هي شروط اللجوء، غير الاختفاء الثابت، وما هي شروط الحكم غير الاعتدال المفترض.. حتى أُعطي (الشرع) فرصة ذهبية من غالبية العرب والغرب، لم تهتز على الرغم من المذابح التي ارتكبت بحق الأقليات السورية كلها من دون استثناء، والشكوك التي أثيرت ولا تزال، حول جدارة حاكم دمشق الجديد وفريقه الذي يقل عنه إعتدالاً !
المصادفة ليست التفسير المقبول لما جرى في العاصمة السورية في مطلع كانون الأول الماضي/ ديسمبر، وكان أشبه بعملية تسليم وتسلم بين الرجلين ووحداتهما العسكرية والأمنية ، تلك التي ألقت السلاح، والتي تسلمته، والتي لا تزال تسيء استخدامه، وتتمتع بشرعية عربية ودولية لا شك فيها..يجري تبريرها بالقول أن سوريا بحاجة الى إعادة بناء شاملة، تقدر كلفتها بما يزيد على 120 مليار دولار، وهو رقم مغرٍ جداً لأي مستثمر، عربي او تركي أو أميركي أو أوروبي، أو حتى إسرائيلي، يقود في بعض النقاشات الى السؤال عما إذا كانت المذابح السورية المتتالية، هي أحد أشكال الصراع والتنافس بين المستثمرين الخارجيين، أو حتى بين شركائهم السوريين؟
لكن سيل الدماء لا يدع مجالا للشك في أن الحرائق المتنقلة، خارج الغابات والأحراج الساحلية، هي أكبر من أي خلاف مالي بين متنافسين على المغانم السورية، وهي في الأصل تعطل أي بحث جدي في عملية إعادة الاعمار التي ينتظرها السوريون.. والتي لم تظهر حتى الآن ملامح دولة سورية مقنِعة، تتولى إطلاقها، ولم تترك السلطة الإسلامية الحاكمة حالياً الانطباع بأنها تسير في هذا الاتجاه، بل عكسه تماماً.
ما يجري في جبل العرب الدرزي، هو فصل جديد من فصول تلك الحقبة السوداء التي تعيشها سوريا، حيث تسقط مجدداً فكرة الدولة من الاذهان وجداول العمل، ويعود المجتمع الى ما قبل تلك الفكرة، وما دونها. ويهدر المتحاربون دماء بعضهم البعض، بأبشع طريقة ممكنة، ويندر العثور على محايدين سوريين أمام تلك التصفيات الجماعية المتبادلة، التي تموه رغبة دفينة بإختبار فرضية الإبادة، قبل ان تضيع الفرصة الراهنة التي قد لا تتكرر، وقبل ان يتنبه الجميع الى حقيقة ان أرقام الضحايا السوريين، يومياً، أسبوعياً، وشهرياً ، باتت تفوق الأرقام المسجلة في أسوأ مراحل حكم الأسد الوحشي.
أخطر ما في تلك الوقائع والأرقام السورية المرعبة، أنها صارت يجري التسليم بها بإعتبارها قدر سوريا وخيار شعبها..الذي لن يتردد ولن يتأخر في تصدير ذلك الخيار الى شقيقه اللبناني الأصغر..الذي لم يخرج بعد من كوابيسه المستعادة هذه الأيام أكثر من أي وقت مضى منذ توقيع اتفاق الطائف إياه.
بيروت في 16 / 7 / 2025