تثير التصريحات حول احتمال بدء حوار بين تركيا والكرد، بمن فيهم قوات سوريا الديمقراطية، تساؤلات حقوقيين وصحفيين ينحدرون من مناطق سورية احتلتها تركيا قبل أكثر من خمسة أعوام عن أفق الحوار المحتمل والجدوى منه في الظروف الحالية.
وتسببت حالة العداء المستمرة بين تركيا والحركات الكردية ضمن حدودها وخارجها بالويلات للجانبين منذ تأسيس الجمهورية التركية قبل قرن من الزمان، واستمر ذلك خلال عمليات عسكرية سابقة وهجمات مستمرة للجيش التركي ضد الكرد في سوريا.
وما بين 23 و26 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، قتل الجيش التركي في هجماته على شمالي سوريا 14 مدنياً، بينهم أطفال ونساء ونازحون، ودمّر المزيد من البنى التحتية والخدمات الضرورية للعيش.
وتمرّ هذه الأيام الذكرى الخامسة لاحتلال تركيا وعناصر الفصائل الموالية لها منطقتي رأس العين/ سري كانيه وتل أبيض شمالي سوريا عام 2019، فيما تقترب الذكرى السادسة لاحتلال عفرين شمال غربي البلاد عام 2018.
وتتأزّم الأوضاع في سوريا بشكل متسارع بعد 13 عاماً من النزاع، تشابكت فيها قضايا سياسية قومية ودينية وطائفية مع ملفات أمنية وحقوقية واقتصادية، ثمّ تدخّل الدول الإقليمية والعالمية التي لا تهتم بحل شامل في البلاد قدر تركيزها على ملفّات محددة تحقق أهدافها التي قد تتغيّر بين عام وآخر.
ولم تسلم تركيا من تبعات تدخّلها في سوريا، فشهدت حملات عنصرية داخل أراضيها ضد اللاجئين، وتعرضت حكومة العدالة والتنمية لانتقادات شديدة من معارضيها بسبب التورّط في الملف السوري، وهو ما دفعها خلال العام الأخير إلى استجداء التطبيع مع حكومة دمشق.
إلا أن مشروع التطبيع فشل هو الآخر بسبب شروط الحكومة السورية ومعارضة المسلحين الذي مارست تركيا عليهم الضغط من خلال دعم فصائل محددة على حساب أخرى أمرت بحلّها، وهو ما يعني في النهاية حاجتها لحلول جديدة.
كل ذلك يدفع لمسارات جديدة، ذات تأثير على خارطة النفوذ الحالية داخل سوريا، والتي يعود آخر تغيير كبير فيها إلى العام 2020 حين استعادت القوات الحكومية مناطق بريفي حلب وإدلب بعد سنوات من سيطرة المعارضة.
“أجندة سيطرة طويلة”
وتجاوزت صنوف الظلم والانتهاكات والجرائم التي ارتكبتها تركيا وفصائل الجيش الوطني في عفرين ورأس العين خلال السنوات الستة الماضية كل الحدود، بالإضافة لتناحر هذه الفصائل بسبب تنافسها على النفوذ والممتلكات المنهوبة.
يقول عزالدين صالح، المدير التنفيذي لرابطة تآزر للضحايا، لـ DeFacto، إن حالة حقوق الإنسان في مناطق عفرين وسري كانيه/ رأس العين هي من أسوأ الأمثلة في شمال سوريا، إذ تشهد منذ احتلالها جرائم عديدة، كالقتل خارج نطاق القانون، والاعتقالات التعسفية، والإخفاء القسري، والتعذيب. “وأصبح النهب ومصادرة الممتلكات جزءاً من وقائع الحياة اليومية”.
ويضيف أن الجانب الأكثر خطورة هو التغيير الديمغرافي حيث قامت تركيا بتوطين آلاف العائلات من مناطق أخرى من سوريا، وحتى من خارجها، في منازل السكان المهجّرين قسراً، بالإضافة إلى التتريك، من خلال فرض اللغة التركية على المؤسسات التعليمية، وتغيير أسماء الشوارع والمرافق العامة إلى أسماء تركية.
وتتناقض ممارسات تركيا الممنهجة في المناطق السورية منذ أعوام مع السمات الواجب توفرها في أي جهة تؤمن بالحوار وأن ما يجب أن يكون في النهاية هو التفاهم على إنهاء العداء والعنف والحروب.
ويشير صالح إلى أن ما حدث بعد احتلال تركيا “لم يكن مجرد نزوح عشوائي، بل هو سياسة منهجية لتفريغ المنطقة من سكانها الأصليين وإعادة رسم تركيبتها السكانية بما يخدم الأجندة التركية لفرض سيطرتها الثقافية والسياسية على المنطقة على المدى الطويل”.
وفي حين تروّج تركيا لهذه المناطق أنها “آمنة” لإعادة اللاجئين السوريين إليها، يقول مدير المنظمة المدافعة عن ضحايا الانتهاكات: “فوضى السلاح وانعدام القانون هما السمة الغالبة، الفصائل المدعومة من تركيا تنفذ انتهاكات يومية بحق السكان، دون أي رادع، مستفيدة من الإفلات من العقاب وغياب أي مسار للمساءلة”.
ويوضح أنه بموجب القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف، تتحمل تركيا المسؤولية القانونية عن حماية المدنيين في المناطق التي تحتلها، ومع ذلك، فشلت تركيا في الالتزام بهذه المسؤولية، سواء من خلال السماح بحدوث هذه الانتهاكات، والمشاركة فيها أو تجاهلها المتعمد.
انعدام ثقة
ورغم وضوح النوايا التركية منذ البداية في السعي لإفشال الإدارة الذاتية التي يقودها الكرد، إلا أن تركيزها على التغيير الديمغرافي والنيل من السكان الأصليين أنشأ نموذجاً لمنطقة تنتشر فيها الأحقاد والظلم وينعدم الأمان والقانون، ما جعل الثقة في جدوى الحوار معها منعدمة لدى ناشطين كثيرين.
ونجحت تركيا في تحويل وجهة مجموعات كثيرة من المعارضة المسلحة من جبهات الحرب ضد النظام السوري إلى محاربة الكرد وتكرار الاتهام بتشكيل خطر على الأمن القومي التركي ومحاولة الانفصال.
ويرى الحقوقي حسين نعسو أن جميع الفصائل المسلحة الموالية لتركيا في عفرين ورأس العين اشتركت في ممارسات إجرامية ارتكبتها بناء على التعليمات الواردة من الدولة التركية.
ويضيف أن بروز انتهاكات فصيل معين أو منطقة أكثر من أخرى يعود إلى نسبة الكرد المتبقّين في تلك المناطق من جهة وأهمية الموقع الجغرافي بالنسبة لتركيا التي تطلب سرعة في إنجاز التغيير الديمغرافي.
ولا يعتقد نعسو أن من الممكن بناء حوار بين الكرد وتركيا على أساس ما انتهجته تركيا في المناطق السورية التي احتلتها “وفي المدى المنظور على الأقل”.
ويعلل ذلك بأن الحكومة التركية لا تزال مقتنعة برفض وجود قوات على حدودها تابعة لأي جهة كردية وعربية باستثناء التابعة للنظام السوري وفي إطار اتفاقيات أمنية سابقة وإجراء تعديلات عليها.
ويرى عز الدين صالح أنه على الرغم من أن السلطات التركية تتحكم بشكل كامل في هذه المناطق وتدير شؤونها عبر وكلائها المحليين، إلا أنها لم تتخذ أي خطوات فعالة لوقف الانتهاكات أو محاسبة مرتكبيها.
ويعتقد أن “الوضع في هذه المناطق يتطلب تدخلاً دولياً عاجلاً لإنهاء الاحتلال وإعادة المهجرين إلى ديارهم وتعويض المتضررين ضمن مسار يضمن المحاسبة والإنصاف للضحايا”.
تهيئة مناخ الحوار أولاً
ويقول الصحفي عبد الحليم سليمان أن الحديث عن أي مفاوضات محتملة بين الكرد وتركيا بحاجة لتهيئة مناخ ملائم، لأن “الخطوة هامة في قضية معقدة وطويلة في المنطقة”.
ويضيف أن انعدام الثقة يأتي من إنكار تركيا وجود كرد ضمن حدودها ومحاولاتها التضييق على من هم خارج حدودها في كردستان العراق وسوريا وحتى في إيران من خلال اتفاقات أمنية وقعتها سابقاً مع هذه الدول.
ويستذكر سليمان دفع تركيا فصائل من “الجيش الحر” لمهاجمة سري كانيه/ رأس العين عام 2012، ثم احتلال عفرين عام 2018 ورأس العين وتل أبيض عام 2019.
ويرى أن أولى الخطوات الممهدة لمناخ يساعد على الحوار هو إيقاف تركيا لهجماتها ضد شمال وشرق سوريا وممارساتها في عفرين ورأس العين، “بطبيعة الحال تستوجب أي مفاوضات وقف الاعتداءات وضامناً يشرف على تنفيذ أي اتفاق”.
وحول ما تستطيع قوات سوريا الديمقراطية أن تتعهّد به أو تتنازل عنه على طاولة الحوار، يقول عبد الحليم سليمان إن قسد لا تتبنى سوى الدفاع عن نفسها ضمن الأراضي السورية، وليست في موضع التنازل فهي لم تسيطر على أراضي تركية كي تنسحب منها مثلاً.
ويستدرك: “لكن يمكن أن تقدم تعهدات بناء على ادعاءات تركيا مثل عدم تجاوز الحدود وعدم تشكيل تهديد لأمن واقتصاد تركيا”.
ويشير الصحفي سليمان إلى أن تركيا تنظر لقضية الكرد في المنطقة ككل ولا تفرق بين الأطراف السياسية والمجتمعات الكردية داخل حدودها وخارجه، وعليه لا حلول وسط وبخصوص المصير المحتمل لرأس العين وعفرين، إما أن تعود تركيا لحدودها الدولية بعد مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة، أو تستمر في أطماعها بإلحاقها بخريطتها”.