ما بعد الزّلزال في سوريا: لا لم تكن الحرب بتلك القسوة المصدر: النهار العربي. دمشق-طارق علي
عائلة سورية في بيتها الذي سقط بعضه في مدينة حلب. (أ ف ب)
“وكأنّ الحياة توقفت عند الرابعة وسبع عشرة دقيقة فجر السادس من شباط (فبراير)، تغيرت حياتي بعدها بالكامل، لم تفارق الدمعة عيني حتى الآن”، تقول ريمه نعمان الناجية من زلزال اللاذقية لـ”النهار العربي”.
ريمه، العشرينية التي وصلت مع عائلتها إلى دمشق في اليوم التالي للزلزال العنيف الذي ضرب سوريا وتركيا، تغالب دموعها وهي التي يفترض أنّها بأمان عند أقاربها غير متمكنة من التغلب على مرارة ما مرّت به ومئات آلاف السوريين. ما حصل انعكس على كل منهم بطريقة مختلفة، وإن كان الخوف المستمر هو السمة الأبرز التي جمعت عموم الناجين، ليس أولئك الناجين من بين الركام فقط، بل عموم السوريين، ولربما أصاب سكان الدول المجاورة أيضاً، فالأثر النفسي لما نقله الإعلام من صور المعاناة أدى بصورة جمعية إلى استحواذ الخوف على جزء واسع من المشاعر الإنسانية لكل فرد.
تعاني ريمه الكوابيس بصورة يومية منذ لحظة نجاتها من الزلزال، تقول: “والله لا أتمكن من النوم، كلما غفوت أرى كوابيس عن بيتنا يسقط فوق رؤوسنا ونموت أنا وأهلي، أفيق هَلِعةً، وأبكي كثيراً، ومنذ يوم الزلزال لم أتمكن من النوم قبل الخامسة فجراً، حين تصير الساعة 4.17 دقيقة فجراً يبدأ جسدي بالرجفان ويختلجني شعور عميق بفرط الخوف والهلع وعدم الانضباط العصبي، أصبح شبه متسمرة في مكاني”.
والد ريمه يريد اصطحاب ابنته إلى طبيب نفسي، ومع أنّه مؤمن بأهمية ذلك، لكن الرجل الذي خرج وعائلته على غفلة من مدينتهم يحتاجون إلى أن يرتبوا أمورهم أكثر، فلا هم عارفون إن كانوا سيظلون في دمشق فيستأجرون منزلاً خاصاً، أو أنّهم سيعودون إلى مدينتهم إذا منحتهم الحكومة سريعاً منزلاً مسبق الصنع.
العائلة تمكنت من الخروج إلى الشارع من بيتها الذي يقع في الطبقة الأرضية سريعاً، مستغلة كونها عائدة لتوها من سهرة خارج المنزل، لكنّ أفرادها بالتأكيد حفظوا في عقولهم مشاهد لا يمكن وصفها ولا تصويرها أو صوغها على الورق، فهل ثمة أصعب من شعور امرئ فجأة بالأرض تهتز تحته بعنف وشدة وأمام ناظريه منزله وجنى عمره استحال كومة من “ملح”؟
في وقت لاحق، تحديداً مساء العشرين من شباط الجاري، حصلت الهزة الأخيرة التي شعر بها سكان سوريا ولبنان، وكانت بقوة 6.4 درجات على مقياس ريختر ومركزها في أنطاكيا في تركيا.
مع أنّ الهزة استمرت أقلّ من عشرين ثانية، وكانت شدتها أضعف من الزلزال المدمّر الذي كان، ولكنها كانت كفيلة بأن تجسد كل معاناة ريمه التي روتها مسبقاً. منذ ارتجت الأرض شرعت الفتاة تبكي بطريقة هستيرية وركضت نحو أهلها تعانقهم، بحسب ما قاله أبوها لاحقاً، وبالتأكيد لم يكن الحديث معها من جديد أمراً يسيراً، فلا شك أنها كانت في حالة نفسية لا توصف لشدة سوئها.
وكأنّه مشهد تمثيلي
بدا المشهد عموماً في الهزة الأخيرة غريباً للغاية، وكأنّه لوحة هاربة من وثائقي يعيد تصوير مشاهد الخوف من الزلزال على طريقة “ديكو دراما”، فالناس كلّهم نزلوا إلى الشوارع، في حلب والساحل وحماة وحمص وغيرها. اكتظت الشوارع في ليلة العشرين من شباط، رغم أنّ البلاد شهدت مئات الهزات الارتدادية حتى الآن، ولكنّ الأخيرة تلك كانت أشدها. اهتزت بيوت الناس وهم في داخلها فهرعوا إلى الشوارع خوفاً من تكرار الفاجعة.
وفي تقدير خبراء، أنه لو استمر الزلزال لفترة أطول لكنا أمام هول فاجعة جديدة، لكن القدر ساند السوريين هذه المرة على غير المعتاد. السوريون الذين استحال على الأقل ثلث بلادهم أبنية مدمرة وشبه مدمرة ومتصدعة بأفضل الأحوال لشدة ما تعرضت من قصف خلال سنوات الحرب الطويلة.
مصادر مطلعة قالت لـ”النهار العربي” إنّ نسبة الدمار العام في دمشق وريفها منذ بداية الحرب نحو 50 في المئة من المجمل، و40 في المئة في حلب، و36 في المئة في حمص.
صدمة نفسيّة عنيفة
وللوقوف على حالة ريمه وغيرها من المتضررين نفسياً، تواصل “النهار العربي” مع الخبير النفسي معتز نبهان، الذي قال: “ما حصل هو صدمة نفسية عنيفة، له آثار نفسية قد تكون وخيمة على الأفراد نظراً إلى حجم ما كان، ورغم أنّ الخوف شعور طبيعي قد يصيب أي أحد، ولكن حين إسقاطه على ما بعد الزلزال يصير صدمة، مع تداعيات مستقبلية، وعلينا أن نركز أيضاً على القلق بوصفه خوفاً من المجهول، وهو الحالة الطاغية الآن”.
ويضيف الخبير: “قلق ما بعد الزلزال، يتمثل أحياناً بالإحساس بالدوار والاهتزاز من دون حصول هزات فعلية، والفئة الأكثر تضرراً هم الذين كانوا شاهدين على الحدث في المناطق المنكوبة، وهناك أشخاص وصلهم الخبر من دون ضرر، ورغم وجود فرق بين الحالتين، ولكن القلق المعمم أصاب هاتين الفئتين”.
وعن معالجة ذلك يقول نبهان: “يجب التركيز على العلاج النفسي فوراً عبر استشارات موثوقة، وهو متاح، ولكننا نعاني من أولئك الرافضين للعلاج، مقابل فئة أقبلت على العلاج والتعامل معها يسير عبر معالجة تبعات ما بعد الصدمة، سواء أتم ذلك دوائياً أم عبر العلاج السلوكي المعرفي”.
أربعون ثانية لا تُنسى
تقول الشابة جميلة حمدان إنّ ما من شيء يمكن أن ينسيها تلك الأربعين ثانية من الزلزال، “صوت الناس تصرخ، صوت البكاء، الاستنجاد، الأرض تهتز تحتنا وصوت غريب نسمعه والسماء تبرق وترعد فوقنا، لا أستطيع نسيان أي تفصيل، كلما أغمضت عيني تداعت تلك الصور أمامي دفعة واحدة”. جميلة، خريجة الأدب العربي، كانت شاهدة على الزلزال الذي نجت منه في مدينة حلب، ولكنها حملت معها تبعاته النفسية الأليمة.
لم تفكر جميلة في تلك اللحظات سوى بأهلها من حولها وكيف ستحميهم وكل شيء حولهم من أثاث المنزل يتداعى ويسقط فوق رؤوسهم، “فجأة صرت مكبلة لا أدري ما أفعل، أين سأحتمي؟ بل كيف سأحميهم؟ انقضت الهزة الأولى ونزلنا فوراً إلى الشارع، رأيت الخوف والهلع في عيون كل من كان في الشارع، وكان الشارع ممتلئاً، توقف الزمان لديّ لحظة الفاجعة تلك، لحظة سقوط منزلنا، وحتى الآن أنا خائفة وأعاني قلة النوم، بالكاد يغمض لي جفن، وأشعر بحالة مستمرة من الدوار التي لا تفارقني”.
“النهار العربي” تواصل مع الطبيب حمادة السباعي الذي أوضح أنّ حالة الدوار حالة عامة أصيب بها جزء كبير من السكان الذين شعروا بالزلزال، وهي حالة تسمى بـ”دوار ما بعد الزلزال”، ومن الممكن أن يستمر الأمر ما بين ثلاثة أيام وشهرين، وربما أكثر، ومن الممكن علاج الأمر إن استمر لفترة أطول عبر أدوية يصفها الطبيب المختص.
وكأنّ الحياة توقّفت
من غير السهل على الإنسان أن تتوقف حياته عند ساعة معينة، ولحظة معينة، لحظة فقد فيها أهله أو منزله، لحظة واحدة، ولكنّ الخروج منها قد يحتاج علاجاً طويلاً قابلاً للانتكاس في كل لحظة ما دامت الهزات الارتدادية تتوالى بشكل شبه يومي.
رغم كل ما مرّ به السوريون، ورغم أنّهم اعتقدوا أنّ ما من شيء سيمرّ عليهم أصعب من حرب الأعوام الطويلة تلك في بلادهم، إلا أنّ أربعين ثانية جاءت لتغير كل مفاهيمهم عن الأمل والفقدان، ليقولوا في أنفسهم: لا، لم تكن الحرب بهذه القسوة.