“كلنا معتقلون… إلى أن تتحرر سوريا من كل استبداد”، تفتح هذه العبارة إهداء كتاب “معتقلون ومُغيّبون- الفن يوثّق والأرشيف يتحدث”، الصادر عن دار رياض الريس، الذي جمع فيه فريق “ذاكرة إبداعية للثورة السورية”، أكثر من 1500 وثيقة فنية تغطي موضوعة الاعتقال والتغييب في سوريا، منذ عام 2011 حتى نهاية عام 2020، في ما يمكن تسميته طوال أكثر من 450 صفحة، مدخلاً إلى الحداد السوري المعلّق حتى هذه اللحظة.
يُقدّم جابر بكر للكتاب في نص تحت عنوان “سجنهم كائن حي”، بكر الذي سبق أن شارك في تأليف كتاب “الغولاك السوري: سجون الأسد 1970-2020″، يرى في السجن السوري كياناً عضوياً (يحتلّ) جغرافيا سوريا، ويمتدّ إلى أجساد السوريين الذين اعتُقلوا أو عرفوا المعتقلين.
الكتاب محاولة لرصد تسلسل أحداث الثورة السورية، وقراءة العنف السياسي المتمثّل بالاعتقال والتغييب القسري وتجلّيه الفني في الصور واللوحات والبوسترات والكتب وغيرها من الأعمال الفنية، نحن أمام حالة فريدة من التوثيق التي ترصد تدفّق الزمن عبر عنف النظام، على أجساد سوريين اختفوا أو قُتلوا في السجن، وآخرين يدللون ذكراهم ويُعلون صوت المطالبة بهم.
الرعب من الترتيب
يرصد الكتاب طبقات العنف الذي تعرّض له السوريون منذ 2011، عبر “كائن” السجن “الحي”، إذ نتتبع الأحداث الكبرى في الثورة السورية، ثم عنف النظام اعتقالاً وإخفاءً وتعذيباً، ورد الفعل الفني على هذه الممارسة، الفصول المرتبة حسب السنوات والأحداث، وصفت سنا يازجي مدير مشروع “ذاكرة إبداعية”، عملية كتابتها ورصدها وتوثيقها بـ”حلبة مصارعة مع الذاكرة”.
ما يثير الرعب أثناء تصفّح الكتاب هو استعادة الذاكرة نفسها، كوننا نرى ضمن ترتيب واضح، قائم على القوائم والأحداث وتواريخ أسماء الكثير من المعتقلين والمختفين وأماكن اعتقالهم ومُددها، ما يفتح الباب على ذاكرتـ”نا” الذاتية والحداد المعلّق، الذي تختزنه الأعمال الفنية المختارة، التي إن خلا بعضها من الأوجه والأسماء، تعيدنا إلى لحظة الجرح الأول، حين أدرك الواحد منا اختفاء أصدقاء أو صديقات، تحوّلوا إلى أطياف تحضر في إحدى اللوحات أو البوسترات، ثم أسماء في أحد التقارير الدولية، وطوال سنين الاختفاء ما زال تمسكنا بـ”حياتهم” سيد العاطفة، لا المنطق.
جغرافيا الاعتقال في سوريا
يكشف الكتاب عن جغرافيا السجن السوري، وامتداده بين الأجساد والأفرع واللوحات، جغرافيا نرى الفاعلين فيها يزدادون ويتغيّرون، ليزداد تمزيق سوريا وذاكرتها، فليس النظام وحده من اعتقل وأخفى، إذ يتتبع الكتاب قوى الأمر الواقع التي ساهمت في قهر الأبدان وإخفائها.
السجن أشبه بعدوى تصيب “الجميع”، اقتبست قوى الأمر الواقع من النظام السوري أساليبه، لترسيخ الحكم على التراب والأجساد. السجن كائن حي، كونه ينمو ويكبر وتتعدد أوجهه ومساحاته، ولا كتاب واحد قادر على الإحاطة بأسماء المعتقلين والمختفين جميعاً، وهنا تأتي الأعمال الفنية بوصفها جزءاً من تاريخ ثورة سوريا نفسها، هي علامات ذات قيمة جمالية، وفي الوقت ذاته تنتصر لسردية سياسية، ومطلب إنساني يلخص بسؤال بسيط: “أين هم؟”.
جغرافيا السجن هذه تمتد فيـ”نا” ليقيس الواحد منا زمنه وحياته، مقارنة بمن اعتُقل واختفى، أولئك الذين توقف الزمن عندهم، وخرجوا من التاريخ نحو غياهب أقبية التعذيب، لكن ما إن نرى “الكل” حتى يتّضح زمننا المشترك، زمن انتظار الغائبين، المنفيين من المكان والسياسة، بينما “نحن” كما فريق “ذاكرة إبداعية”، نحوّل هذه الفجوة في أجساد السوريين إلى قوة سياسية في سبيل العدالة، تقول سنا يازجي: “علمنا أنه في المحاكمات التي تحدث اليوم سواء في فرنسا أو ألمانيا، أن القاضي يعتمد ضمن الأدلّة، يعتمد على كتب، روايات ذات طابع توثيقي. وبيعتمد على كتب توثيقية، وهذا ما أعطانا دفعاً كبيراً، أدّت للمحاكمات اليوم، من كان يتخيل أنو ممكن يتحاكم مسؤول سوري”.
إقرأوا أيضاً:
دماء المدنيين ترافق بشار الأسد إلى قمة الرياض!
المهجّرون في سوريا هدف لرصاص اشتباكات فصائل المعارضة المسلّحة
هل تُردَم حفرة الغياب؟
يهدد تصفّح الكتاب تماسكنا الظاهري، نحن السوريين المهجّرين ومدللي أمل عودة المعتقلين، هذا التماسك يتشقّق حين نرى الأسماء والأوجه والأعمال الفنية، ما نذكره معلّق لدى لحظة الاختفاء، الزمن الذي استطال أكثر من 13 سنة، يكشف عن هاوية عميقة داخلنا، سنين الغياب علّقت معرفتنا بمن اختفوا، أولئك الذين لم يبق لنا سوى أسمائهم، ما مصيرهم؟ هل يعرفون ما يجري في الخارج؟.
أطياف هذه الأسئلة التي تتردد أثناء قراءة الكتاب والتحديق باللوحات والأعمال، تستعيد في قحف رؤوس السوريين (على الأقل لمن هم خارج سوريا) زمناً يبدو موازياً لزمنهم الحالي، العمل الفني هنا يحمل في داخله أثراً مضاداً للنسيان؛ ولنسمّه ندبة، تلك التي ما إن تُلمس حتى يعود ألمها، الألم الذي يلخّصه فريق ذاكرة إبداعية، بقولهم: “كثيراً ما بكينا ونحن نبحث ونكتب، ولم ننم إلا قليلاً، أمام هذا الكم الهائل من الاعتقال والتغييب، ولأننا جميعاً قد فقدنا قريباً، أو صديقاً، أو جاراً، أو حبيباً”.
ينزّ الألم خفياً بداية تصفّح الكتاب حين نشاهد الأسماء والقوائم واختلاف أزمنة الاعتقال، ومع تدفّق الصور والأسماء، ينفجر نبعاً، يرفده اللايقين حول مصير من اختفوا، ألم”يداويه” سوريون آخرون، وأرشيف للمبادرات التي تطالب بالمعتقلين والمختفين، وكأن هناك كتلتين من السوريين: المختفين وأولئك الذين لم ينسوا، وهنا تأتي أهمية الكتاب، هو أرشيف للأمل، يرصد كيف يهتف السوري الناجي باسم من ما زال مختفياً في صدى لشعار “بدنا ياهم، بدنا الكل”.
عن مصائرنا المشتركة
تبدو أول عبارة في الكتاب قاسية “كلنا معتقلون… إلى أن تتحرر سوريا من كل استبداد”، خصوصاً أن الـ”نا” التي تعود على أقل تقدير على “كل” السوريين، تمنعنا من متابعة حياتنا أو التحرر من سطوة العنف والقهر، هذا الاعتقال الجماعي بمعناه المادي وذاك الرمزي، لا فكاك منه. معتقلون كلنا لأن مصير من في السجون لا يختلف كثيراً عن مصائرنا، نحن الذين نجونا بأجسادنا من سطوة السجن السوري والصامتون تحت سطوة الأسد.
مهددون نحن بوهم “التعافي وإعادة الأعمار”، ففتح أبواب سوريا لـ”المغامرين” و”السيّاح” الأجانب وتعميم صورة “الأمان” والمشي فوق الأرض التي تحوي تحتها معتقلين ومغيّبين، تعكس سلطة يُطبّقها النظام لصفعنا في دول الشتات واللجوء، وتعميق جوع الباقين تحت سطوته، وكأن النظام السوري يريد حتى مصادرة المنفى منا، وتوريد الوهم والكذب ممن هم في الداخل، قائلاً للـ”العالم” إن “سوريا بخير!”.
بمواجهة السطوة السابقة يظهر الأرشيف والذاكرة كفاعلين سياسيين، ما دمنا “نتذكر” و”نؤرشف” فنحن نواجه مسح الذاكرة، خصوصاً أن قضية المعتقلين يتم التساهل بها أحياناً في التفاوض مع النظام السوري (أياً كانت الجهة التي تفاوض) لكن ونقتبس هنا من سنا يازجي مرة أخرى “النظام السوري بقيان، بس نحن كمان موجودين”.
سورية الآن… ودوماً
نرصد في الكتاب بترتيب زمني دقيق، كمية التقارير والمبادرات العالمية التي كشفت وحشية النظام السوري، في الوقت ذاته الوعي “العالمي” بقضية المعتقلين والمغيّبين قسراً في سوريا، والجهود المبذولة في سبيلها، لكن يظهر هنا سؤال، طرحه يهودي نمساوي نُقل إلى غيتو في بولونيا، اسمه أوسكار روزنفلد، وأعادت اقتباسه الباحثة الفرنسية كاترين كوكيو لاحقاً في مقال عن سوريا، سؤال مفاده: “ما فائدة استمرار وجود العالم؟”.
هذا “العالم” الشاهد على جهود التوثيق والإيضاح والشرح والإدانة، لم يستطيع إيقاف معاناة السوريين ( والآن الغزّيين واللبنانيين) بل حتى لم يستطع أن يُخرج معتقلاً من السجن، بل بقيت سلطة “الخروج من السجن” بيد بشار الأسد، الذي يُطلق عفواً تلو آخر، تاركاً آلاف أهالي المعتقلين يحتشدون في دمشق، بحثاً عن وجه مألوف بين بضع عشرات أطلق النظام سراحهم عام 2022.
راهنية المسألة السورية الآن، تعزز آنيتها الجهود التوثيقية، كذلك التأريخ والأرشيف اللذان يقاومان قبل كل شيء، سطوة النسيان والأيديولوجيا والخطاب السياسي، ناهيك بأن هذا الجهد في الجمع والأرشفة والتدقيق يحافظ على عزيمتنا نحن الناجين، حافظي أسماء المعتقلين والمغيّيبن، بوجه القوى التي تُصارع من أجل أن ننسى، أو بصورة أدق، تحرمنا من حق استعادة الذاكرة لحسابات سياسية، أو كما جاء في مقدمة الكتاب الذي سيصدر قريباً بالفرنسية والإنكليزية، عرقلة ” العمل ضد الإنكار”.