يضحك لاريجاني في بيروت وهو العالم تماماً ماذا يعني الضحك في ظرف مماثل. يعرف الديبلوماسي الإيراني المخضرم أن كثراً من اللبنانيين يحمّلون نظامه مسؤولية جرّ بلادهم إلى حرب دموية وعبثية مدمّرة مع مجرم متطرّف مثل نتانياهو… ضحكة أقرب إلى غارة أو جدار صوت، أقرب إلى رقص فوق الركام والجثث، لا تثير في النفوس إلّا الاشمئزاز والفزع!
ليس معروفاً عن أركان نظام ولاية الفقيه الإيراني وتابعيه اللصيقين أي ميل إلى الضحك. على العكس تماماً، يعطي الخمينيون انطباعاً عاماً بالتجهّم والعبوس. ربما كان نصرالله استثناءً في بعض الحالات التي يمكن العثور له فيها على صور وهو يضحك وتظهر أسنانه كلها. لكن صورته الطاغية تحمل دائماً سمات الغضب والنظرات الحادة المترافقة مع رفع السبابة لتهديد الخصوم بالثبور وعظائم الأمور. الضحك لطالما كان عملة نادرة في قاموس الخمينيين، وينسحب الأمر إلى خامنئي ومنهما إلى شخصيات كثيرة متجهّمة في المحور، كمحمد رعد ونعيم قاسم وقاسم سليماني وغيرهم…
الخميني لكثرة جديته، ودلالة على عدم اكتراثه بالعواطف، حينما سُئل من أحد الصحافيين على متن الطائرة الفرنسية التي أقلته من باريس إلى طهران، عمّا يشعر به في اللحظة التي دخلت فيها الطائرة أجواء بلاده التي تركها مكرهاً لسنوات طويلة، أجاب بتجهّم، بعدما كان ينظر من النافذة متجاهلاً الصحافيين: “لا شيء”.
لا يحيد علي لاريجاني، كبير مستشاري المرشد الأعلى علي خامنئي، عن هذا الخط. فجولة بسيطة على صوره المتوافرة على “غوغل”، تعطي انطباعاً واضحاً عن وجهه الصارم ونظراته الجادة في كثير من اللقطات. وهو حينما يضحك أو يبتسم، تبدو ضحكته متحفّظة و”ديبلوماسية” في أحيان كثيرة تتلاءم وطبيعة لقاءاته وزياراته.
ويفترض بلاريجاني، المخضرم، الذي ترأس مجلس الشورى الإيراني لأكثر من عقد، وكان من كبار المفاوضين الإيرانيين في مسألة البرنامج النووي، أن يكون عارفاً بدلالات الضحك أو التجهّم في عكس صورة الديبلوماسية الإيرانية وشعورها تجاه الملفات التي يتعامل معها الرجل. وهو بالتأكيد يعرف أن ملامح الوجه وحركاته تشكّل واجهة للانطباعات التي يمكن أن يتركها أي شخص خلال حضوره إلى مكان بصفة معينة.
آخر حضور للاريجاني كان في بيروت، آتياً من طهران لبحث المفاوضات غير المباشرة المفترضة بين إسرائيل و”حزب الله” لمحاولة التوصل إلى وقف لإطلاق النار، برعاية أميركية. وهو يعرف أنه وصل إلى بيروت على وقع المجزرة المستمرة منذ أسابيع، والتي ذهب ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف لبناني وعشرات آلاف الجرحى ومئات آلاف النازحين المشرّدين في المدارس. يأتي على وقع الدمار والمأساة، ويُجري جولة يلتقي فيها رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي. وفي جولته تلك، التقط له المصوّر الصحافي اللبناني نبيل اسماعيل مجموعة كبيرة من اللقطات وهو يضحك بكامل أسنانه حتى أذنيه، على عكس الشائع عن رموز فريقه السياسي المتجهّم في أيام السلم.
نشر الزميل اسماعيل الصور على حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلّق كثيرون علي ضحكات المستشار الإيراني بأنها “في غير محلّها”، الى درجة مطالبة البعض بطرد السفير الإيراني احتجاجاً على الضحكة المستفزة، وهي لا شكّ كذلك.
يضحك لاريجاني، وهو العالم تماماً ماذا يعني الضحك في ظرف مماثل. يعرف الديبلوماسي الإيراني المخضرم، أن كثراً من اللبنانيين يحمّلون نظامه مسؤولية جرّ بلادهم إلى حرب دموية وعبثية مدمّرة مع مجرم متطرّف مثل نتانياهو. يعرف أن الموت يحوم فوق بيروت وأن الدمار يتمدّد في مدن الجنوب وقراه كبقعة زيت، وقد وصل إلى البقاع وبعلبك، وطاول كسروان وعكار.
يعرف كل ذلك تماماً، وقد درس ضحكته قبل أن يظهرها. وهو لا شكّ قد رأى من نافذة طائرته وهي تحوم فوق بيروت قبل هبوطها في المطار، دخان الصواريخ وغبار البيوت المتبخّرة، ورأى طبعاً ما لا يخفى على أحد: كآبة المدينة الغارقة في الحزن والفقر والتعتير والتهجير والألم واليأس.
مع ذلك، لو سُئل لاريجاني، على غرار ما سُئل الخميني في الطائرة عن شعوره، لأجاب: “لا شيء”، ثم افتعل ضحكة شبيهة بضحكته أمام الكاميرات، ضحكة أقرب إلى غارة أو جدار صوت، أقرب إلى رقص فوق الركام والجثث، لا تثير في النفوس إلّا الاشمئزاز والفزع!