قد لا يفي بالغرض وصفُ وقائع التوصّل إلى وقف النار بين إيران وإسرائيل بـ”المسرحيّة لتسلية الأطفال”، فالأداء الذي رافق مسرحيّة القصف الإيراني لقاعدة عين الأسد في العراق انتقاماً لاغتيال قاسم سليماني تضمّن وقائع أقلّ فجاجة.
لا بدّ من التوقّف عند الشكل لأنّه يضيء على ما هو آتٍ من تداعيات وتسويات وصفقات نتيجة المواجهة التي عاشها العالم بين 13 و23 حزيران، بين إسرائيل وإيران وبين الأخيرة وأميركا.
في عام 2020 تكتّم دونالد ترامب على الاتّفاق المسبق القاضي بأن تقصف طهران قاعدة عين الأسد، واكتفى البنتاغون بإعلان إصابة بعض الجنود بارتجاج في الدماغ. لم يكشف عن سيناريو المسرحيّة إلّا في 2024 في سياق حملته الانتخابية للولاية الحاليّة. كشف أيضاً كيف تهرّب بنيامين نتنياهو آخر لحظة من المشاركة في اغتيال سليماني.
أمّا أوّل من أمس فشكر إيران بعد دقائق من القصف على تبليغها واشنطن (بالواسطة) مسبقاً نيّتها قصف قاعدة العديد في قطر، فجرى إفراغها من الجنود والمعدّات. قيل إنّ القصف لم يطَل القاعدة بل جوارها. عمليّاً وعلى الرغم من كثرة فصول المسرحيّة التي تحتاج إلى التفنيد، أدّت الحصيلة إلى فضّ بكارة السرديّة المنفصلة عن الواقع التي دأبت القيادة الإيرانية على تكرارها عن الانتصارات التي حقّقتها. تلك السردية التي تتقن خداع جزءٍ من جمهورها ومناصري “الممانعة” من العرب اللبنانيّين بها.
مساواة في ابتكار المناورات
يقتضي القول أيضاً إنّ الرئيس الأميركي يساوي حكم الملالي خيالاً في ابتكار المناورات. قبل وقف النار بساعات لجأ دونالد ترامب إلى القاعدة القائلة إنّ “الحرب خديعة”. أعطى طهران مهلة أسبوعين فانقضّ بعد يومين، فيما كان حكّامها غارقين في اللعبة السابقة نفسها: كسب الوقت.
كان عراقجي في موقع لا يُحسد عليه، في وقت يدرك أنّ ما تعرّضت له بلاده يقضي على دورها الإقليمي
أتقنت القيادة الإيرانية، لعقود، التلاعب بالمفاوضين الغربيّين في الملفّ النووي، ومارست الدهاء الفارسي والخديعة عليهم. استخدمت مزيجاً من اللطف والدبلوماسية وأوراق القوّة الإقليمية والعنف بالواسطة. أوّل من أمس فعل ترامب الشيء نفسه حين ردّد الدعاء الأميركي الشهير: “فليبارك الله God bless)) إيران وليبارك الله إسرائيل”.
لكنّ الجانب الأيديولوجيّ الديني في العقل الإيراني الذي ينجرف مع الغيبيّات، حال دون استشراف مواطن الضعف، ودرجة القلق والعداء الإقليمي للتمدّد الإمبراطوريّ جرّاء الأضرار التي سبّبها لدول وازنة بالمنطقة، ومدى التقاطع الدولي على استنفاد الدور الإقليمي لإيران.
في سياق اعترافه بأنّ بلاده تعرّضت للخديعة من ترامب، تميّزت ردود وزير الخارجية الإيراني عبّاس عراقجي في مؤتمره الصحافي في إسطنبول الأحد، تعليقاً على العملية العسكرية الأميركية الخاطفة ضدّ منشآت فوردو ونطنز وأصفهان السبت الماضي، بجملة وقائع عن الضعف الذي بلغته طهران، ومنها:
القراءة الخاطئة للتباينات الأميركيّة
– اشتكى عراقجي على ترامب، لدى مؤيّديه وناخبيه، بأنّه خالف وعده لهم برفض الحروب. يشي ذلك بأنّ الدبلوماسية الإيرانية راهنت على التباينات داخل معسكر الرئيس الأميركي وحزبه الجمهوري، بين فريق “ماغا” الرافض للتورّط في أيّ حرب والاكتفاء بدعم إسرائيل، وبين الفريق اليمينيّ الداعي إلى مساندة إسرائيل بأيّ ثمن ولو بعمل عسكري لإنهاء برنامج إيران النووي. يرمز فريق “ماغا” إلى الأحرف الأولى من شعار ترامب القائل “لنجعل أميركا عظيمة مجدّداً”.
إسرائيل
طهران انخدعت بحملة رموز فريق “ماغا” على بنيامين نتنياهو إلى حدّ قول ستيف بانون، مستشار ترامب السابق للأمن القومي، إزاء مطالبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بأن تضرب واشنطن المنشآت النووية الإيرانية: “من أنت لتملي على أميركا ما تفعله؟”.
هل ساهم اللوبي الإيراني النشط في واشنطن (تعتدّ به طهران) في إضاعة بوصلة قراءتها لوجهة قرار ترامب؟ اختلاط التمنّيات الغيبيّة مع الاعتداد بالنفس حال دون مقاربة واقعية لانطلاقة حملة “الأسد الصاعد” الإسرائيلية في 13 حزيران.
انساقت طهران خلف المناورة الأميركية حين حاول ترامب أن ينأى بنفسه عن حملة إسرائيل الصاعقة
انساقت طهران خلف المناورة الأميركية حين حاول ترامب أن ينأى بنفسه عن حملة إسرائيل الصاعقة، مكتفياً بتأييدها ليفسح المجال أمام المفاوض الإيراني لأن يعود بالتنازلات المطلوبة في شأن صفر تخصيبٍ لليورانيوم. اعتمدت في المقابل مناورة اتّسمت بصفر فعّاليّة.
زاوجت الدبلوماسية الإيرانية بين نجاح صواريخها الدقيقة في التسبّب بخسائر إسرائيلية، وبين اتّهام نتنياهو بمحاولة جرّ ترامب إلى المشاركة في الحرب. توهّمت إمكان الفصل بين واشنطن وتل أبيب. أعمى ذلك بصيرتها عن أنّ واشنطن شاركت في قرار انطلاق الضربات الأخيرة في 13 حزيران، وأنّ هذا يشمل الانضمام الأميركي إلى الحملة.
الشّكوى للوكالة الدّوليّة… والحملة عليها
– شكا عراقجي أميركا للوكالة الدولية للطاقة الذرّية، وفي الوقت نفسه اتّهمها بتوفير التغطية للضربة الأميركية بسبب قراراتها الأخيرة. ما حجبه ضجيج المعارك هو أنّ القوى الغربية كافّة، بما فيها الأوروبية التي حاولت التوسّط عشيّة ضربة الـB2، تسلّحت بمعطيات مفادها أنّ طهران خالفت نظام الوكالة ومعاهدة الحدّ من الأسلحة النووية لأنّ تخصيبها لليورانيوم فاق الحدّ الأقصى المسموح به للبرامج السلميّة، أي 5 في المئة، إضافة إلى مخالفتها نسبة 3.67% التي سمح بها اتّفاق 2015.
من حجج هذه الدول أنّ مفاعل آراك النووي أخذ ينتج البلوتونيوم الذي لا يُستخدم إلّا لأغراض عسكرية، وأنّ طهران أجرت تجربة لصاعق يفجّر اليورانيوم.
شكا عراقجي أميركا للوكالة الدولية للطاقة الذرّية، وفي الوقت نفسه اتّهمها بتوفير التغطية للضربة الأميركية بسبب قراراتها الأخيرة
غياب القرار الإيرانيّ… بانتظار إيميل ويتكوف
– تجنّب عراقجي أن يجزم العودة إلى المفاوضات التي يدعو إليها المجتمع الدولي برمّته، بما فيه روسيا التي زارها الإثنين لاستكشاف اقتراحاتها التفاوضية. ربط التفاوض بردّ بلاده على إسرائيل.
– أهمّ أسباب تأخّر عراقجي في الإقبال على التفاوض، وفق معطيات أميركية، أنّه لم يكن هناك قرار إيراني بفعل غياب المرشد علي خامنئي عن السمع لأسباب أمنيّة. في يد عراقجي القرار السابق بالتفاوض، وفي الوقت نفسه تحتاج قيادته إلى الثأر وتحصيل “الشرف”.
إقرأ أيضاً: ما هي مصائر الجمهوريّة الإيرانية وخامنئي؟
كان عراقجي في موقع لا يُحسد عليه، في وقت يدرك أنّ ما تعرّضت له بلاده يقضي على دورها الإقليمي. لم يبقَ سواه للتفاوض لخفض الخسائر. الأرجح أنّه تواصل مباشرة مع المفاوض الأميركي ستيف ويتكوف، إذ إنّهما يتبادلان الرسائل المباشرة على الإيميل.