مع مراجعة تاريخ العلاقة بين الدولة والمجتمع اللبناني وحزب الله، التي تجاوزت أربعة عقود، لا يمكن للمرء أن يلاحظ المسار التصاعدي للتكاليف التي فرضتها المليشيات على هذه الدولة والمجتمع، وأن هذا المسار الصاعد كاد أن يكون بدون انقطاع بالكامل.
بدلاً من الوفاء بوعد الانتقال من الحماية إلى التحرير، ثم إلى الرفاهية والرخاء، مررنا بمرحلة انتقالية نحو زيادة التعرض، والمزيد من الاحتلال، والمزيد من البؤس. من غير المفهوم، بأي معايير، أن ينتهي بنا المطاف، كل هذا الوقت بعد أن بدأت المقاومة وما يسمى بتحصين البلاد، حيث نحن اليوم، مستمرين في التهامهم بوحشية إسرائيل وشهيتها النهمة لدمائنا ودمارنا.
أما عن ادعاء أن هذا هو ثمن التحرير، فإن أولئك الذين يصنعونه لم يطرحوا إطارا زمنيا ولا حتى تقديرا تقريبا، فمتى سنحقق هذه الجنة الموعودة على الأرض، ولم يضعوا خارطة طريق للمراحل التصعيدية التي سنمررها على الطريق إلى هذه الجنة.
لقد دفع ذلك بأغلبية الشعب اللبناني – التي تنمو بعد يوم – إلى استنتاجين يعززهما فيضان من التطورات المعاصرة والحقائق التجريبية: أولاً، أن التحرير المعني ليس هدفاً ملموساً يجب تحقيقه، بل فكرة لا يمكن تحقيقها انصهرت في طريقة حياة ليقودها مدى الحياة (أو بالأحرى حياة عدة أجيال). الافتراض الثاني هو أن هذه التضحيات الهائلة تُقدم بشكل ماسوشيستي، لإلحاق ألم “لذيذ” على النفس، حيث يتبقى لنا أقل مما يبقى القليل في أيدينا أو في نهاية المطاف لا شيء على الإطلاق.
أي أن هذا شيء من الطقوس يجب أن نخدمها لمجرد أنها طقوس، دون أن نطالب أنها بدورها تخدمنا.
إضافة الملح إلى الجرح، فإن هذه المليشيات، الجماعات التي تدعو إلى التحرير الوطني أو غيره، مرتبطة بمصالح أجنبية لها الأسبقية على مصالح دولها، إذا لم تكن هذه المصالح الأجنبية سبب وجودها الأساسي والنهائي. هذه الحقيقة تقوض ادعاءاتهم المتضخمة بالمقاومة لفلسطين وقضيتها حيث أن ما يكمن وراء القناع يأتي في رؤية أوضح، جنبا إلى جنب مع الدوافع الخفية المشكوك فيها التي تملي أفعالهم.
حقاً، لا يمكن لأي شعب، إلا إذا كان يعاني من مرض جماعي، أن يعد بهذا “التحرير” ويتوقع منه أن يطالب به بشدة! الشعور العميق بخيبة الأمل والخيانة الذي يظهر في ظل هذه الظروف متوقع منه بطبيعة الحال أن يخلق شعورًا بالخذلان وإعادة النظر في التكاليف الباهظة ومقارنتها بالفوائد الغير موجودة، ومن ثم الوصول إلى استنتاجات مستمدة من هذه المقارنات.
ما يمثله حزب الله في لبنان هو هذه الظاهرة المليشياتية في ما قد يكون أبشعها، وبالتأكيد أرقى المليشيات في الشام العربي. ولكن لبنان ليس الساحة الوحيدة التي نفذ فيها أعماله الكارثية. نجد على سبيل المثال سكان البوكمال في شرق سوريا يعبرون عن إحباطهم من المليشيات ويشتكون من أنهم لا يستطيعون تحمل التكاليف المرتفعة التي يفرضها وجودها وأنشطتها. على نطاق أوسع، يصرخ المزيد والمزيد من العراقيين حول مخاوفهم من التورط في مستنقع قاتلة بسبب سياسات المليشيات.
في كل مكان تقريبا في الشام، وسعوا نشاطهم الإجرامي، وأضافوا التمييز السياسي الجماعي، ورفضوا إنفاذ أي قانون، وتفاقم الفساد، وفرض ضرائب تصاعدية على الحياة الاقتصادية، ناهيك عن هجماتهم الغاشمة البغيضة على العادات الطائفية والتقاليد الشعبية.
هكذا نجد أن انهيار المليشيات القوية يشبه انهيار الأنظمة الإمبريالية أو الإمبراطورية الزائفة، لأنها تشن هجمات واسعة وبطريقة مماثلة على جميع جوانب الحياة. في ظل هذه الظروف، يسود التشكك الجماعي المصحوب بالسخرية التي لا ترحم – السخرية من كل ما تغطيه رواية المليشيات عن نفسها والعالم من حولها – حيث أن هذا السرد يغطي كل شيء تقريبا، وكذلك السخرية. فضح الوعد الكاذب خطر على من قطعوه وكلما تضخمت الوعد زاد الانهيار روعة وفضيحة.
من الأكاذيب التي تنهار قراءة زائفة للتاريخ والحاضر الذي نشرته المليشيات وتحولته إلى التيار السائد، تعكس الأنظمة الشمولية التي تعيد كتابة التاريخ وتمحو منه وتضيف إليه كما تراه مناسبا. الخطاب الذي كثيرا ما يعني عكس ما يقوله ينهار أيضا – الخطاب الذي تزين بتعبير شبه وثنية ليكرره المجتمع بأكمله لدفع الأرواح الشريرة التي تكون فيها الهزيمة النصر والنصر هزيمة والقوة ضعف والضعف قوة. وبطبيعة الحال، تجد هذه الرواية حارسها النبيل في شخصية جذابة موكل لها بقيادتنا، وعيوننا مغمضة، نحو المجد والفوق.
ولكن فجأة، بينما ينهار كل شيء مثل منزل من البطاقات، يتحدث الناس بشكل صحيح ويستخدمون المصطلحات بدقة، ويقتبسون الأرقام لدعم أو دحض الآراء، ويرون الأشياء بأعينهم بدلاً من ما أجبروا على التظاهر برؤيته. بين عشية وضحاها يجد الناس أنفسهم وجها لوجه مع مسؤوليتهم تجاه أنفسهم وبلدانهم: بكيفية التدبير بدون سحر وسحرة وبدون رواية تسعى لتلقينهم مثل الأطفال أن الأسود أبيض والأبيض أسود. قد يواجه الشام العربي، وسط صعوبات جمة ومصاعب استثنائية، هذا الاختبار الهائل للمسؤولية اليوم.