جدل النصر والهزيمة لن يطول هذه المرة. سؤال الحرب المقبلة لن يتكرر. واستدراج حزب الله الى مثل هذا الجدل لن يجدي نفعاً، لا سيما وأنه لم يعلن هذه المرة كما في العام 2006، نصراً إلهياً، لأنه يعد لديه زعيم أو تنظيم مؤهل، يتولى هذه المهمة، ولن يعلن أيضاً هزيمة استراتيجية، لأنه لن يخالف قاعدة عربية موروثة ترفض الاعتراف بالهزائم أمام العدو الإسرائيلي، وتصنفها انتصارات تاريخية.
تجريد حزب الله، من اسلحته الثقيلة، ومن العشرات من كبار قادته، ومن الالاف من مقاتليه، يجرده من دوره الثقيل، ويحيله الى حزب سياسي محلي، أرتكب أخطاء أكبر من الأخطاء التي ارتكبتها بقية الأحزاب اللبنانية على مدى العقود الخمسة الماضية، تفرض عليه الانخراط في قواعد اللعبة الداخلية، من دون شروط مستمدة من عناصر قوته الإقليمية السابقة.
اتفاق وقف النار الحالي، او الهدنة التجريبية، لا يحتمل الكثير من المناورات التي كانت متاحة في أعقاب حرب ال2006. الرقابة الأميركية لا تفسح المجال لانتهاك التفويض المتجدد للجيش اللبناني والقوات الدولية، ولا توفر فرصة لخرق الحدود البرية مع سوريا، لتهريب السلاح الثقيل او مكوناته..والاهم من ذلك، تزيل الشك في أن إيران ما تزال راغبة أو حتى قادرة على استخدام الساحة اللبنانية كجبهة أمامية متقدمة في الصراع مع أميركا، وعلى التمسك بنظرية “وحدة الساحات العربية المقاوِمة”، التي لم تكن في الأصل فكرة صادرة من طهران، بل كان مصدرها حزب الله نفسه!
ويبدو ان تلك النظرية، هي التي حمت لبنان مما هو أدهى من اتفاق الهدنة الحالية. فالمسافة الإلزامية التي اتخذتها ايران لنفسها عن الحرب المستعرة منذ السابع من تشرين الأول العام 2023 على الساحات العربية كافة، لم تكن مجرد دفاع عن طهران والنظام الحاكم فيها، تفرضه موازين القوى الكبرى، بل كانت أيضاً إعترافاً أخيراً بحدود الدور المسند الى جبهات المقاومة، التي كادت تورط الساحة الإيرانية بما لا قدرة لديها على تحمله من مخاطر عسكرية وسياسية.
ولا بد من الإقرار بان العامل الأهم في تجنيب لبنان ما هو أخطر من الهدنة الراهنة، هو القتال الفلسطيني الانتحاري المستمر في قطاع غزة، والضفة الغربية، الذي لا يزال يعرقل خطط العدو الإسرائيلي الفلسطينية، وبينها السيطرة الكاملة على الشأن الفلسطيني، شعباً وقيادة ومؤسسات، المبنية على السيطرة شبه المطلقة على الأرض الفلسطينية التي تحققت في الشهور ال13 الماضية. لولا ذلك القتال، الذي يؤجل البحث في أفكار”اليوم التالي” في الداخل الفلسطيني، لكانت المطالب والشروط الإسرائيلية قد وصلت الى بيروت، لاسيما في ضوء الوقائع المدمرة التي فرضها العدو على لبنان، والتي لن يكون بالإمكان مواجهتها بحلف مفرّغ مع طهران، وتحالف مشكوك مع دمشق..أو بالتخلي فقط عن “مرشح التحدي” لرئاسة الجمهورية، حسبما ورد في العرض اللبناني الأول لوقف النار الشهر الماضي.
ولا يعني ذلك ان الانتخاب الوشيك للرئيس المقبل الذي يبدو أنه أيضا من مكملات الهدنة ولوازمها، سيخالف هذا السياق، سياق تجريد حزب الله من أسلحته وسياساته الثقيلة على لبنان، ووضع هذه الأسلحة والسياسات في تصرف مشروع إعادة انتاج هياكل ومؤسسات الدولة اللبنانية، المشتهاة، والتي ستكون في الشهرين المقبلين، ثم في العامين المقبلين على الاقل، تحت المراقبة والمتابعة الأميركية والفرنسية المباشرة.. علّ في ذلك ما يحقق المعجزة اللبنانية المنتظرة منذ عشرات السنين.
الهدنة لن تكون نزهة، لا لحزب الله ولا لأحد في لبنان. مهمة تسييس الحزب هي الأولى، لكنها لن تكون الأخيرة. هامش الخطأ ضيق، حتى بالنسبة الى العدو الإسرائيلي، والرقيب الأميركي والفرنسي.. لكن الفرصة أكبر من العام 2006، لكي تكون حرب العام 2024 هي خاتمة الحروب على الجبهة-الساحة اللبنانية، ونهاية الاستباحة للحدود اللبنانية السورية.
هي مجرد فرصة لا أكثر.
بيروت في 28/11/2024