كان من حقنا أن نحظى بوقتٍ أطول لنفرغ للاحتفال بالخلاص من جزّار حياتنا. كنا نستحق أن نُمنَح الدهر كله للفرح فحسب. ليس هذا ممكناً، ولا بأس بذلك طالما لا بشار الأسد حول رقاب بلدنا وأهله بعد اليوم. نصل إلى اليوم ما-بعد التالي وأمامنا استحقاقات عاجلة تقتضي الانهماك فوراً. السوريون والسوريات، أفراداً ومجموعات ومؤسسات ومنظمات، المؤمنون بالديمقراطية والمساواة والسيادة الوطنية، مدعوون فوراً لبناء أكبر ثقل شعبي-وطني ممكن حول قضايا لا يمكن أن تنتظرنا حتى ننتهي من الاحتفال المُستحَق. أدناه إشارة لبعض هذه القضايا الطارئة.
يُشكّل التوغل الإسرائيلي داخل الأراضي السورية أمس عُدواناً سافراً، يستغل بشكلٍ خسيس اللحظة الأكثر رَهبةً في تاريخ بلدنا المعاصر، بهدف فرض واقع عسكري وأمني داخل التراب الوطني قُبيل أسابيع من عودة ترمب إلى البيت الأبيض، وهو الرئيس الأميركي الذي خالف التشريعات الدولية واعترفَ لإسرائيل بسيادتها على الجولان السوري المُحتَلّ. ليس مُستغرباً من دولة الاحتلال الإبادية أن تقوم بذلك؛ ونجد أنفسنا في هذه اللحظة مفتقرين للأدوات الناجعة، السياسية منها والعسكرية، لمواجهة هذا الاعتداء كما ينبغي للأمر أن يكون لو أننا في بلدٍ طبيعي بالحد الأدنى. لا تكفي الإدانة والشجب، ولا مجال للنظر باتجاهٍ آخر. وقفُ الاعتداء الإسرائيلي المُستجِدّ على التراب السوري قضيةُ سيادة وأمن وطنييَن، تحتاج نقاشاً وطنياً عاجلاً لإيجاد حلول من ضمن المُمكن والمُتاح.
ومع بسط تشكيلات «ردع العدوان» وفصائل الجنوب سيطرتها على كامل مناطق سيطرة النظام سابقاً، نَدخلُ في مرحلة خطرٍ مزدوج منبثق من فوّهة بندقية العسكر المنتصرين: خطر استخدامها لفرض أمرٍ واقع متمدد، يمسّ حريات وحقوق وكرامات الناس؛ أو خطرُ اقتتالٍ فصائلي على مناطق أو غنائم. ورغم التحوّل الكبير في السلوك العسكري والسياسي خلال المعركة الأخيرة، إلا أنَّ في سيرة هذه الفصائل ما يدعو إلى ما هو أكثر من القلق. هذا عدا عن تَمدُّد قسد ودخولها في حالة تأهبٍ جديدة بانتظار التطورات المقبلة، وعدا معارك «الجيش الوطني» التي تأتمرُ بتوجيهات الأمن القومي التركي. نحتاج لتشكيل أكبر قطبٍ سياسي ومدني ممكن، بأوسع ما يمكن من أدوات ومُقدَّرات، يضغط على مختلف القوى العسكرية السورية لتجميد الوضع الميداني، وإخراج السلاح من أي معادلة مرتبطة بإدارة شؤون الدولة والمجتمع. البلد مُنهار وأهله تَعِبوا من تَعَبِهم. لا يمكن التفكير بأي مستقبل لسوريا دون أن يكون رفضُ الحرب، أيّ حرب، لأيّ سبب، قلبَ هذا التفكير وعَقلَه.
والآن، أما وقد بكينا، مُحقّين، مع كل مَشاهد عودة مُهجَّرين ومُهجَّرات إلى بيوتهم-نّ في المناطق التي خسرها النظام، ينبغي أن ننظر بعينين اثنتين ونتذكر أن هناك -على الأقل- عشرات آلاف النازحين خلال الأيام العشرة الأخيرة. ثمة من نزحوا خوفاً من انتقام النظام على خسارة مناطقهم، أو خوفاً من الفصائل، أو خشية على أنفسهم نتيجة منابتهم القومية والدينية أو مواقفهم السياسية السابقة… أياً يَكُن. الضغط لضمان عودة آمنة وكريمة وسريعة لكل نازح ونازحة أولوية وطنية.
وإذ سنتحدث لأسابيع وأشهر، وسنوات حتى، عن المرحلة الانتقالية وصعوباتها الكبرى، فإنَّ ما لا يمكن أن ينتظر، كخطوة أولى نحو عدالةٍ انتقاليةٍ ما، هو دخول أكبر قدر ممكن من الفاعلين الحقوقيين السوريين، وبأوسع دعم ممكن من المؤسسات الدولية والأممية، إلى سوريا للقيام بمهامهم. تكسيرُ أقفال السجون وإطلاق سراح المعتقلين كان ذروةً أخلاقية ووطنية قلَّ مثيلها، في بلدٍ جُعِلت سجونه معاملَ تغييبٍ وموتٍ تَركَتْ في مجتمعنا جرحاً غائراً سيدوم لعقود. لكن عمليات فتح السجون هذه كانت اعتباطية، ولا يكفي الاستعجال واللهفة، ولا تَفهُّمُ ظرف المعركة الطارئ، لتفادي قول إنها كان يجب أن تجري بشكل أفضل. عدا ذلك، دخل مدنيون وعسكريون مراكز أمنية متنوعة للتنزّه وإشباع الفضول، دون أي إجراءات لصون وثائقها والأدلة الجنائية الموجودة فيها. ورأينا في مقاطع الفيديو كيف عُبِث بمحتويات أفرع أمنية بشكلٍ غير مسؤول. في سوريا ما يفوق مئة وخمسين ألف مُغيَّبٍ ومُغيَّبة. أي أن ملايين السوريين والسوريات، وذويهم وأحبابهم، يعيشون محكومين بشرطٍ رهيب خالطٍ للحياة بالموت. من الكارثي أن تُستخدَم أدلة مُحتمَلة تُساهم في كشف مصيرهم-نّ ديكوراً لتصوير الريلز والسيلفي.
وأخيراً: سوريا تحتاج العالم. لا أوهام حول هذا العالم. نعرفُ عَطالته. لقد خَبِرناها بلحمنا ودمنا، ونرى كل يوم أثرَ هذه العطالة على الفلسطينيين. مع ذلك، لا نمتلك ترف ازدراء العالم، ولا وقت لدينا لتضييعه على التعبير عن مظلوميتنا المُحقة تجاه المجتمع الدولي. سوريا بحاجة لعون أممي ودولي لتحقيق الاستقرار، وللدخول في عملية انتقالية طويلة الأمد، بأكبر إشرافٍ ودعم دوليين مُمكنَين. ومثلما نحتاجُ تشكيلَ قطبٍ سياسي ومدني ضاغط على الجهات المُسلَّحة في بلدنا، يجب تنسيق العمل للضغط على الصعيد الدولي من أجل فرض سوريا على أجندات الدول والوكالات. نحتاج مساعدات إنسانية، ولكننا نحتاج أكثر لاستقرارٍ يجعلنا مع الوقت أقلَّ اضطراراً لها. هذا حديث سيطول. سيشغلُنا لسنوات. لكن بناء استراتيجية للضغط على المجتمع الدولي يجب أن يبدأ حالاً.
أمامنا اليوم مهام عاجلة ضخمة، ليست إلّا قليلاً جداً من بين كثيرٍ جداً ينتظرنا في السنوات المقبلة. لا بأس بذلك، أمامنا صعوبات ومخاطر جمّة لكن المستحيل تَحقَّق: بات لدينا بلدٌ دون أسد.