بعدما تحرّرت سورية من نظام الأسد الأب والابن، وقعت في ثلاثة مآزق خطِرة:
1- مأزق الساحل السوري، حيث ارتُكبت جرائم قتل عشوائية استهدفت أبناء من الطائفة العلويّة.
2- مأزق الاعتداء على الكنيسة الأرثوذكسية في دمشق، الذي استهدف المسيحيين السوريين بصورة عامّة.
3- مأزق الاشتباكات المسلّحة في السويداء، التي استهدفت العرب الدروز.
هذا يعني أنّ ثلاثة من مكوّنات الشعب السوري المتعدّد الأديان والقوميّات تعرّضت لِما تعتقد أنّه خطر وجوديّ، الأمر الذي يشكّل تهديداً للوحدة الوطنية السوريّة.
ما حدث في محافظة السويداء السوريّة لم يكن مفاجئاً، لكنّ المفاجأة تتمثّل في عدم التنبّه المسبق إلى وجود قنبلة موقوتة تمسك إسرائيل بمفتاح تفجيرها
سيف مسلَّط
إنّ امتداد هذه المكوّنات إلى لبنان والعراق حتّى الأردن وفلسطين المحتلّة، يعني أنّ الخطر الذي يهدّد سوريا في وحدتها وفي سيادتها واستقرارها يشكّل في الوقت ذاته سيفاً مسلّطاً فوق رقبة الوحدة الوطنية في هذه الدول العربية الثلاث، بل يتجاوز ذلك إلى العديد من الدول العربية الأخرى (السودان مثلاً).
ما حدث في محافظة السويداء السوريّة لم يكن مفاجئاً، لكنّ المفاجأة تتمثّل في عدم التنبّه المسبق إلى وجود قنبلة موقوتة تمسك إسرائيل بمفتاح تفجيرها، وهو التفجير الذي يطلق إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط على قاعدة أن يكون لكلّ مجموعة قوميّة (كرديّة) أو طائفية (مسيحيّة) أو مذهبية (درزيّة، علويّة، إلخ…) كيان سياسيّ خاصّ بها.
في القرن التاسع عشر، قسّم سايكس (مندوب وزارة الخارجية البريطانية) وبيكو (مندوب وزارة الخارجية الفرنسية) الشرق الأوسط إلى سلسلة من الدويلات المستمرّة حتّى الآن. في ذلك الوقت، لم تكن إسرائيل قد صُنعت بعد، لكنّها كانت في حسابات الرجلين معاً.
تحاول إسرائيل الآن إكمال المهمّة، وذلك بتقسيم المُقسّم وتجزئة المُجزّأ. ويشمل مشروع التقسيم والتجزئة الجديد كلّ المنطقة الممتدّة من باكستان حتّى المغرب (حيث الوجود الأمازيغيّ).
تقوم استراتيجية الأمن الإسرائيلي على قاعدتين:
القاعدة الأولى: احتكار الصناعة العسكرية النووية (مفاعل ديمونا، حيث أنتجت إسرائيل، بمساعدات فرنسيّة أوّلاً ثمّ أميركيّة، عدداً غير معلن من القنابل النووية). وتحرص إسرائيل على أن تحتكر امتلاك هذا السلاح، ولذلك ضربت مفاعل تمّوز في العراق أيّام صدّام حسين، وضربت مشروع الدراسات النوويّة في سوريا، قبل أن تتعاون مع الولايات المتّحدة في قصف المفاعل النووي الإيراني.
القاعدة الثانية: تمزيق العالم العربي إلى كيانات صغيرة دينية مذهبية قومية، بحيث يؤدّي تصارع هذه الكيانات (على غرار ما حدث في السويداء) إلى توفير الأمن الاستراتيجي لإسرائيل.
حاولت إسرائيل التسلّل عبر لبنان عام 1982 لتنفيذ هذا المشروع، وبدا لها أنّها نجحت في ذلك، لكنّها صُدمت عندما “انقلب السحر على الساحر”، وذهب ضحيّة هذا الانقلاب الشيخ بشير الجميّل الذي علّق عليه بيغن وشارون آمالاً كبيرة، إلّا أنّه أعلن العمل على استعادة الوحدة الوطنية اللبنانية بعد انتخابه رئيساً للجمهوريّة.
حاولت إسرائيل مرّة ثانية عبر العراق، وتحديداً عبر أكراده، لكنّها فشلت أيضاً. فالروح الأيّوبيّة (صلاح الدين) أثبتت أنّها لا تزال حيّة في النفوس.
ليس ما يجري في سورية منفصلاً عن السيناريو العامّ الذي يستهدف العالم العربي كلّه من المحيط إلى الخليج، فالأمن الاستراتيجي الإسرائيلي يقوم على قاعدة تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ
مصلحة إسرائيل فوق كلّ اعتبار
كان عالم الاجتماع الأميركي – اليهودي برنارد لويس (المتخصّص في الدراسات الإسلامية) أوّل من وضع لحساب المخابرات المركزية الأميركية مشروعاً مدروساً ومتكاملاً لتقسيم المنطقة العربية إلى سلسلة من الدويلات الصغيرة التي تعتمد في وجودها واستمرارها على ما تتلقّاه من حماية ودعم أميركيَّيْن. وبالتالي يوفّر البعد الاستراتيجي لهذا التقسيم الأمن الذي تحتاج إليه إسرائيل. فالمشروع يجعل من إسرائيل واحدة من الدول الدينية، وليست الدولة الدينية الوحيدة في الشرق الأوسط، ويجعلها أيضاً الدولة الأولى بحكم الامتداد اليهودي في العالم، وخاصّة في الولايات المتّحدة وأوروبا الغربية، وتأثيرها المباشر على اتّخاذ القرار.
تتناقض مع مشروع تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ في العالم العربي (من المحيط إلى الخليج) مبادرتان أطلقهما الفاتيكان:
تمثّلت المبادرة الأولى في السينودس حول لبنان الذي دعا إليه البابا الراحل يوحنّا بولس الثاني (1993)، والذي أكّد الوحدة الوطنية الإسلامية – المسيحية في لبنان، ودور مسيحيّي لبنان في الثقافة العربية (نصّ الإرشاد الرسولي).
أمّا المبادرة الثانية فتمثّلت في السينودس حول الشرق الأوسط الذي دعا إليه البابا بنديكتوس السادس عشر (2010)، والذي أكّد الدولة الوطنية الواحدة المتعدّدة الأديان والمذاهب، التي يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات.
لقد تماهت المبادرتان مع سلسلة المبادرات التي صدرت عن الأزهر الشريف ورابطة العالم الإسلامي وعمّان ومراكش حول الدولة الوطنية الواحدة المتعدّدة الأديان والمذاهب.
مع ذلك، انهارت الوحدة السودانية، وهو الانهيار الذي حمل خطر نشر ثقافة التقسيم حتّى جنوب مصر، وجنوب المغرب (الصحراء الغربية وحركة البوليساريو).
من هنا، ليس ما يجري في سورية منفصلاً عن السيناريو العامّ الذي يستهدف العالم العربي كلّه من المحيط إلى الخليج، فالأمن الاستراتيجي الإسرائيلي يقوم على قاعدة تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ، وليس على التسويات الثنائية، ولا على “المسيرة الإبراهيمية” نفسها.
إقرأ أيضاً: السويداء بين لعنة الجغرافيا وهشاشة الوطنية
يؤكّد ذلك ما تعرّضت له سورية من عدوان إسرائيلي على خلفيّة أحداث السويداء (قصف دمشق الذي شمل مبنى هيئة الأركان)، على الرغم من الاجتماعات الودّية أو “الإبراهيمية” (؟!) التي عُقدت بين مسؤولين سوريّين وإسرائيليين في العاصمة الأذربيجانيّة باكو.
رفع رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو شعار “صناعة شرق أوسط جديد”، والشرق الأوسط الجديد الذي يحاول أن يرسم خطوطه طولاً وعرضاً يترجم مشروع برنارد لويس… الذي يضع مصلحة إسرائيل الاستراتيجيّة فوق كلّ اعتبار!!