.
رحل بشار الأسد عن حكم سوريا. هذا، بلا منازع، هو عنوان الأسبوع، بل وربما العام وأعوام ستأتي. فتح رحيله باب أملٍ مشوب بالقلق عند البعض، وقلقٍ مستمسك بالأمل عند غيرهم. لا نسعى في مجلة الفراتس للسبق في نقل الخبر، ولكننا نجتهد في تحليله بمطولات تستغرق كتابتها وتحريرها بعض الوقت، فلم تكن التطوراتُ السياسيةُ في سوريا لهذا السبب الموضوعَ الرئيسَ لمقالات هذا الأسبوع. ومع ذلك، فحين أعدت قراءة مقالات الأسبوع لأكتب النشرة لم أستطع أن أحول تفكيري عن سوريا.
فتحَ رحيلُ الأسدِ البابَ أمام عودة اللاجئين. ملايينُ البشر اضطرهم إجرام آلة الحرب والنظام القمعي إلى ترك بلادهم ودورهم وأهلهم، فوق الأرض وتحتها، ليتفرقوا في أرض الله الواسعة. لم يكن السوريون وحدهم ضحايا الإجرام. فاللجوء لا يكاد يذكر إلا ويذكر معه الفلسطينيون. في السنة الماضية، دفعت آلة الحرب الإسرائيلية تسعة أعشار أهالي غزة للنزوح. يتتبع الروائيُ الفلسطيني الغزي يسري الغول أحوالَ النازحين جنوبا، ومن الذين اشتد الحصار والتجويع عليهم في الشمال في الأسابيع الماضية. يكشف تتبُعه زيفَ ادعاءات الاحتلال بتأمين بعض المناطق للنازحين المدنيين، إذ لم تكن هذه الأماكن إلا “أفخاخا للقتل والبطش.”
يرسم المقال صورة مؤلمة للفقد: فقد الأمان بفعل آلة الحرب تارة، والحيوانات التي تعاني الجوع وتبحث عن الأكل بين ركام البشر تارة أخرى، وفقد الأهل أو بعضهم تحت الأنقاض وقت النزوح وتركهم دون وداع لائق، وفقد الخصوصية في المخيمات وفي دورات المياه. لا يبدو ثمة أفق قريب للعودة، فالدُور مهدمة والسماء تمطر قتلاً والنشرات انصرفت عن أخبار غزة لتغطي غيرها من أحداث المنطقة. ولكن هل كانت آمال السوريين في العودة لديارهم أكثر واقعية من آمال الفلسطينيين.
في سوريا يبدو الأملُ متعلقاً بتصرفات رجل واحد تصدر المشهد: أبو محمد الجولاني، الذي صار اسمه في وسائل الإعلام في الأيام الأخيرة أحمد الشرع. عضو تنظيم القاعدة الذي انشق عنه وصار القائد العام لإدارة عمليات المعارضة. يرصد الزميل مراد بطل الشيشاني هذا التحول بتتبع مسيرة الشرع منذ طفولته حتى دخوله المسجد الأموي. لا يسهل وضع الشرع في قالب محدد سلفاً، فهو ابن الطبقة الوسطى الذي نشأ في بيت قومي ناصري، وشب في دمشق حيث لم يكف أقرانه عن تذكيره بنزوح عائلته من الجولان المحتل، قبل أن يدفعه الغزو الأمريكي للعراق لسلوك طريق الجهاديين والسفر للجهاد ضد الاحتلال، حيث اعتقلته القوات الأمريكية. بعد خروجه من السجن، بايع الشرعُ أبا بكر البغدادي، ثم عاد بإذنه إلى سوريا مع اندلاع الاحتجاجات سنة 2011. وهناك انشق عن البغدادي وانحاز للقاعدة ضده، ثم خلع بيعته للقاعدة، وأظهر قدرة كبيرة على المناورة السياسية حتى أسس حكومة الإنقاذ في إدلب سنة 2017. كانت هذه نقطة تحول كبرى، انتقل بها الشرع من “منطق الجماعة المسلحة” إلى “منطق إدارة الدولة،” قبل أن يستغل الظرف الإقليمي ويتقدم تجاه دمشق، رافعا شعار “فتحاً لا ثأراً.”
وخلافاً للقادة الإسلاميين الذين تأثر بهم وعمل تحت إمرتهم قبل أن ينشق عنهم، لم يعتل الشرع المنبر حين خطب في المسجد الأموي، ولم يدّع الخلافة أو يطلب البيعة، وأكد على وجوب طمأنة كافة الطوائف وحفظ حقوقهم. يطرح سرد الشيشاني سؤالاً لا يجيب عنه بحسم: هل يمكن الوثوق بتحولات الشرع؟ وهل تعلم من تجارب سابقيه؟ أم أن هذه التحولات ليست إلا تكتيكا للمناورة؟
الاستعصاء على القوالب المحددة سلفاً لا يقتصر على الجولاني. إذ يكشف تتبعُ زهراء مجدي سيرةَ المطرب السوداني محمود عبد العزيز “الحوت” عن قصة مشابهة. يستمع اللاجئون السودانيون في مصر، والذين تضاعف عددهم خمس مرات منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، إلى أغاني الحوت الذي تغنى بجرح الغربة والحنين إلى الوطن، ويصرون، بعد أكثر من عقد على رحيله الغامض، على قدرته الاستثنائية على جمع الفرقاء السياسيين. هل كان هذا بسبب موقفه المركب من السلطة أم بسبب فنه المميز. كان الحوت، الذي يلقبه محبوه “بوب مارلي السودان،” شاباً عادياً محدود الطموح، إلى أن صعد المسرح فأدرك سطوتَه على الجمهور، وظل وفياً له. كانت علاقته بالسلطة ملتبسة: فقد شارك في الحملة الانتخابية للبشير في 2010، وتعرض لعقوبة الجلد بسبب شرب الخمر.
ربما يأمل السوريون ألا يكون الشرع مثل كوكا كولا، التي ترصد نهى خالد رحلتَها في السوق المصري منذ دخولها إليه في منتصف الأربعينيات. تزامن هذا الدخول مع توسع نشاط الشركة إبان الحرب العالمية الثانية، وتحولها رمزاً لعالمية الرأسمالية الأمريكية. كان لمصر نصيبها من هذا التوسع، إذ بنت الشركةُ فيها عُشر مصانعها التي بنتها حول العالم في هذه الفترة، واستمر توسعها في العصر الجمهوري حتى قررت في سنة 1966 أن تبني مصنعاً في تل أبيب، فقاطعتها الدول العربية ومنها مصر ومنعت دخولَها الأسواق، وقت كانت المقاطعة قراراً حكومياً. استمرت المقاطعةُ نحو عقد من الزمن، قبل أن توقع مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل، وتتوتر علاقتها بالجامعة العربية. استغلت الشركةُ هذا التحول، وفاوضت الحكومةَ المصرية لرفع اسمها من قوائم المقاطعة، وقدمت الوعودَ باستصلاح الأراضي وضخ الاستثماراتِ الأجنبية، فلما حققت مرادها ماطلت في وعودها وتراجعت عن بعضها.
أما إسراء صفية، فتقدم في مقالها عن تأثير تعلم اللغات الجديدة على الدماغ جرعةً من الأمل في إمكان التغيير. منذ ثمانينيات القرن الماضي، ساهمت الملاحظة والتجربة في تغيير التصور السائد عن قدرة الدماغ على التطور، على نحو أكدته الدراسات العلمية عن أثر تعلم اللغات. تؤكد الدراساتُ أن التوصيلات العصبية في الدماغ تتأثر بتعلم لغة جديدة، إذ يؤدي نقلُ البيانات بين نصفي الدماغ خلال تعلم اللغة لزيادة الألياف العصبية التي تربط الخلايا العصبية وتصل مناطق الدماغ ببعضها، كما يمثل التبديل بين لغتين تمريناً عقلياً يعزز حجم الخلايا في مناطق الدماغ. ترصد الدراسات كذلك زيادة في حجم الخلايا الدماغية في المناطق الأمامية والجدارية من أدمغة ثنائيي اللغة، مقارنة بالمتحدثين لغةً واحدة. ويزيد تعلمُ اللغات المرونةَ العصبية للدماغ، على نحو يحد من أمراض الشيخوخة. فهل يكون تعلم الشرع، والثورة السورية، مما شهدته منطقتنا بمثابة تعلم لغة جديدة.
|