النظام في سوريا فضيحة حلفائه. فهو لم يحرص على من تولّى حمايته طوال الـ13 سنة الماضية وعلى مداراة الفضيحة التي تنتظره. فالوثائق يختلط فيها الكبتاغون مع المقابر الجماعية مع المهام الأمنية، بالأسماء والأرقام والمواقع والوظائف، وتُرفق بها كتب مسؤولين لبنانيين من “حزب الله” ومن غيره طلباً للإفراج عن موزع مخدرات لأنه “من جماعتنا”، أو طلباً لفتح الحدود أو إغلاقها تلبية لطلب مهرب، وعشرات من نماذج الفضائح التي تحفل بها الوثائق.
حسمها الحرس الثوري الإيراني في ردّه على “مزاعم” موسكو بأنها نقلت عبر طائراتها نحو أربعة آلاف مقاتل إيراني من سوريا إلى طهران، فأكد أن من نقلهم الجيش الروسي هم “مستشارون لبنانيون وأفغان كانوا يعملون في سوريا” وليسوا إيرانيين!
الحرس الثوري حرص على ضرورة الدقة في التمييز بين مقاتليه ومقاتلي أذرعه. فبين أن يكونوا إيرانيين، وأن يكونوا لبنانيين وأفغاناً فارق سياسي، وإلا لما استدعت “مزاعم” موسكو رداً. الفارق يتمثل بـ”أننا نقاتل في سوريا بأذرعنا وليس بجنودنا”.
أما صفة “المستشارين” التي أطلقها الحرس الثوري على اللبنانيين والأفغان الذين نقلتهم موسكو إلى طهران، فلهم هنا في دمشق قصص تكشفها جبال الوثائق المنثورة في الأفرع الأمنية التي تركها النظام خلفه.
كان من مهام مخابرات النظام السوري السابق كتابة تقارير تفصيلية عن هؤلاء “المستشارين”، وهذا ما يفترض أن يكون فضيحة الفضائح التي يمثلها نشاط هذه الجماعات. ومن المفترض أيضاً أن آلافاً من هذه الوثائق صارت في متناول وسائل الإعلام والأبحاث ومختبرات التحليل في كل العالم.
النظام في سوريا فضيحة حلفائه. فهو لم يحرص على من تولّى حمايته طوال الـ13 سنة الماضية وعلى مداراة الفضيحة التي تنتظره. فالوثائق يختلط فيها الكبتاغون مع المقابر الجماعية مع المهام الأمنية، بالأسماء والأرقام والمواقع والوظائف، وتُرفق بها كتب مسؤولين لبنانيين من “حزب الله” ومن غيره طلباً للإفراج عن موزع مخدرات لأنه “من جماعتنا”، أو طلباً لفتح الحدود أو إغلاقها تلبية لطلب مهرب، وعشرات من نماذج الفضائح التي تحفل بها الوثائق.
إقرأوا أيضاً:
حين عبرت حواجز نظام الأسد: “ما في حساب!؟”
بعد نحو 12 عاماً… أنا في سوريا
ربما لسنا البيئة التي تستقبل هذا النوع من البيانات والمعلومات لإعادة النظر بالوظائف الفعلية خلف المشاركة في الحرب على السوريين، لكن هذه الوثائق ستكون جزءاً من وعي ما بعد سقوط النظام في سوريا. فقبل هذه الوثائق كان تناول هذه الوظائف شفهياً، وأقرب إلى توقعات وشائعات، لكنها اليوم موثقة بخط يد المخابرات السورية. وأدوار “المستشارين” كُتبت وقائعها على نحو يقتضي بالفعل رداً من أشخاصها ومن مشغليهم، لا سيما وأن قاعدة المعلومات واسعة.
والحال أن التمييز الذي أقامه الحرس الثوري بين عناصره وعناصر أذرعه، في رده على مزاعم حلفائه الروس، يصبح مفهوماً إذا ما لاحظنا ألا أسماء لإيرانيين، حتى الآن، في وثائق الأفرع الأمنية، وهي إن وُجدت فلا تُذكر في سياق الموبقات غير القتالية للنظام وحلفائه.
لكنّ أمراً آخر يحضر في هذا السياق، ويتمثل في أن مشاعر الخذلان التي خلفها هروب بشار الأسد في نفوس أجهزته وعائلته وبطانته، بعدما تركهم ولم يخبرهم بخطوة فراره، ليست شيئاً إذا ما قيست بما فتحته خطوته من أبواب فضائح لحلفائه غير السوريين لم يحرص الرئيس المخلوع على مداراتها. وللحقيقة أن جزءاً كبيراً من هذه الأدوار لم تكن معروفة قبل فتح الفروع الأمنية أبوابها للناس وللصحافة ولمن يبحث عن مفقود من السوريين وغير السوريين.
كما أن الوثائق تكشف عدم الثقة المتبادلة بين الجماعات التي تولت حماية النظام، وتنافساً هائلاً في السطو على المرافئ وعلى طرق التهريب، بحيث يحتاج المرء لكي يفهم خريطة النفوذ، إلى أنظمة إلكترونية تتولى فرز المعلومات ورسم سياقات لها، وهو ما سيفضي إلى محتوى تراجيدي يكون جزءاً من ذاكرة جماعية سورية وغير سورية على جميع اللاعبين توقّعها والاستعداد لها.
النقاش السوري اليوم يطاول المرحلة الانتقالية وما تستدعيه من أشكال ضغط على سلطة ما بعد السقوط. الدستور، ودور المرأة في مستقبل سوريا، والأقليات، والوضع الاقتصادي والخدمات وغيرها من مواضيع راهنة، وكلها تتطلب درجة من الحذر حيال المرحلة التي سبقت سقوط النظام. لبنان مثلاً، موضوع مؤجل في حلقات النقاش التي تحفل بها دمشق هذه الأيام، وكذلك إيران والعراق، لكن بالنسبة الى السوريين، هذه أنظمة قاتلت إلى جانب النظام، وهي على الأقل لم تبد حساسية حيال جرائمه، وعلى الأكثر كانت شريكة فيها.
الصمت لن يفيد، والتمنيات المستجدة لـ”الشعب السوري” بحياة أفضل بعد قراره “المفاجئ” بتغيير النظام، لن تغني عن جوع.
من الصعب انتظار حكمة ممن شاركوا النظام في قتاله السوريين، لكن بلداً كلبنان لا يملك حدوداً إلا مع سوريا، لن يكون بعافيته في ظل هذه الحقائق، إلا إذا أجرى مراجعة مقنعة وقدمها إلى السوريين. أما العراق، فقابليته لإجراء هذه المراجعة أكبر، ذاك أن مروحة القوى التي تشكل المشهد السياسي العراقي أكثر شجاعة وأريحية من قرينتها اللبنانية، وتصريحات مقتدى الصدر التي سبقت سقوط بشار الأسد نموذج عما نعنيه بهذه المقارنة.