أسس النفوذ الإيراني في دمشق لمسار جديد وطويل من الضغينة التي لن تخبو لعقود طويلة.
في دمشق، يحار المرء بشأن النفوذ الإيراني. ما ينقله أهل المدينة عن نفوذ طهران في مدينتهم لا يقل عن كونه احتلالاً. أما مرد الحيرة، فهو وضوح هذا الاحتلال، وصفاقة ممارساته. وميل الناس إلى تضخيم فداحة هذا الحضور صادر أيضاً عن شعورهم بأنه احتلال.
ففي المدينة، أبقى نظام البعث على حضوره البصري، فيما تفشّت “الخمينية” المذهبية في مفاصل الدورة الحياتية. هنا طريق مقطوع لأنه يُفضي إلى منطقة يستخدمها إيرانيون في طقوسهم المذهبية، وهنا كان حاجزاً لـ”حزب الله” يدقق في هويات العابرين، وهناك أقامت ميليشيا عراقية.
الحساسية من الحضور الإيراني في دمشق تتعدى بعدها المذهبي، وتمتد إلى جوهر “قومي”، فأن تُكتَب أسماء المزارات الدينية الشيعية باللغة الفارسية، وأن تُذيّل بالأسماء العربية بحرف أصغر، فهذا مدعاة لنميمة أهل المدينة، التي تحولت إلى صراخ بعد سقوط النظام. وأن ينافس تجار إيرانيون تجار المدينة على بيع الزجاج عبر المعمل الذي بنته شركة إيرانية في ريف دمشق، فهذا ما سيضاعف الضغينة.
قد لا يكون هذا الكلام جديداً، أو أنه بديهي بالنسبة إلى أهل دمشق، إلا أن مرد ذهول زائر المدينة بعد سقوط النظام وهرب رموزه، هو ذلك الوضوح الذي لم يعهده المرء في مناطق النفوذ الإيراني الأخرى، في بيروت وبغداد وربما صنعاء. ربما صدر هذا الوضوح عن مفارقة الاصطدام الشعائري بين “عاصمة الأمويين” وممارسات “الولائيين”، أو ربما بسبب الاندراج السلبي للمزاج المديني الدمشقي في الطقس الشعائري للقادمين إلى المدينة من الثغور المذهبية في الدول المجاورة.
ما حصل في دمشق خلال ما يزيد عن عقد من الزمان، هو عملية إخضاع غير ناجعة لمدينة ودودة وغير شقيّة. الأمر قد يختلف إذا ما تحدثنا عن مدن سورية أخرى، لكن دمشق التي لطالما لم تصطدم بنظام البعث الذي حكمها من خارجها، بدت في ظل النفوذ الإيراني أكثر مرارة.
ماذا أراد الإيرانيون فعلاً من تزخيم حضورهم في دمشق؟ فحجم الحضور يتعدى قضية النفوذ السياسي، وسيطرتهم على نظام البعث!
بهذا المعنى قد تجد مقولة “تشييع المدينة” أصداء لها في وجدانات الناس هنا. الخطوة تردّنا إلى نوع من الصدوع المذهبية الممتدة إلى الدولة الأموية، وتعيد إحياء انقسام لم يلتئم، إنما تم هضمه في مشاريع دولٍ حديثة، فاشلة، لكنها أخذت مجتمعاتها نحو مسارات انقسام أخرى.
الأخبار متضاربة عن حجم الاستثمارات العقارية الإيرانية في دمشق، التي يعزوها دمشقيون إلى رغبة “استيطانية” في مدينتهم. الميل واضح إلى تضخيم حجم هذه الاستثمارات، وهو ميل صادر عن شعور بالاستباحة، يميل أصحابه إلى تصديق الكثير من الحكايات، لكن ذلك لا ينفي أن مئات العقارات، لا سيما في الأحياء الشيعية وفي محيط مقامي السيدة زينب والسيدة رقية، اشتراها إيرانيون، بالإضافة إلى عدد كبير من الأبنية والعقارات في محيط السفارة الإيرانية والقنصلية أيضاً.
قضية الاستثمارات العقارية والتجارية الإيرانية في دمشق وفي سوريا عموماً، ستتحول إلى قضية شائكة في المرحلة المقبلة، ذاك أن “النظام الجديد” في سوريا ستربطه علاقة خصومة وعداوة مع طهران ومع “حزب الله” اللبناني طبعاً، فيما نُقلت هذه الملكيات في السجلات العقارية والتجارية في أمانة دمشق إلى أصحابها الجدد. ولوّحت طهران حديثاً بما لها على الدولة السورية من ديون، التي تفوق بحسب إيران الخمسين مليار دولار. وهذا ما يذكرنا بأزمة الديون بين العراق والكويت في أعقاب حرب الخليج، وما نجم عن هذه الأزمة من صدام أفضى إلى احتلال العراق الكويت.
إيران وأذرعها في دمشق أكثر من قصة نفوذ وهيمنة، إنها أيضاً القصف الإسرائيلي الذي تواصل على المدينة، مستهدفاً المقرات والقنصليات والشقق السكنية، التي استفاق دمشقيون على حقيقة أنها تُؤوي ضباطاً ومسؤولين من “حزب الله” أو من الحرس الثوري. لم يغضبهم أنها لم تستهدف مقرات النظام الذي يبغضونه، فهم يعرفون أن هذا الأخير لا يشكل خطراً على أحد غيرهم، لكن إسرائيل التي لا يحبونها والتي تحتل جولانهم، لم تزعجهم كثيراً باستهدافها غزاتهم. الحرب الإسرائيلية على الإيرانيين في سوريا، هي حرب غزاة على غزاة، على ما يقولون.
أسس النفوذ الإيراني في دمشق لمسار جديد وطويل من الضغينة التي لن تخبو لعقود طويلة. الرغبة في بث التشيع في دمشق، تقابلها رغبة في دفع المشاعر المضادة نحو حكايات تنطوي على الكثير من المبالغة.
ينقسم خصوم النظام السوري السابق على معظم العناوين، إلا أنهم جميعاً يتفقون على أن المرحلة الإيرانية في حياة مدينتهم، كانت الأشد قتامة، فقد اجتمع فيها بطش النظام بهم مع عامل خارجي أراد اللعب بهوية مدينتهم.
إقرأوا أيضاً: