هناك جدل واسع اليوم في سورية، بخاصة على مستوى المثقفين والناشطين، حول العلمانية والإسلام، وبالطبع فإن الثورة السورية والموقف منها حاضران في كل نقاش. أغلب المقاربات تستند إلى أطر نظرية ضحلة، لذلك يكون الاستفزاز والمواقف المبتسرة والاتهامات هي الطابع المهيمن على كل الحوارات. وفي ضوء ذلك، يمكن الحديث عن “علمانيات” وليس عن علمانية واحدة، تمامًا كقولنا إن هناك عدة إسلامات وليس إسلامًا واحدًا، وأعتقد أن هذه “العلمانيات” الشائعة في مجملها تفتقر إلى الأرضية الثقافية الضرورية لفهم العلمانية.
“العلمانيات” الشائعة في معظمها غير علمانية. ليس كل من يقول عن نفسه إنه ديمقراطي سيكون ديمقراطيًا بالضرورة، وكذا الأمر بالنسبة إلى العلمانية. ولدى تفحص من يطلقون على أنفسهم وصف علماني نجد أننا أمام واحد من الأنماط التالية، مع إدراكنا أن بعض هذه الأنماط مختلطة في ما بينها:
1- العلمانية الستالينية؛ وهي تعبر عن فهم بقايا الأحزاب الشيوعية، وهي مستنسخة عن العلمانية السوفياتية، تمامًا كشيوعيتها وبرامجها السياسية. من سمات هذه العلمانية العداء الصارخ للدين بالانطلاق من أرضية شيوعية معتقدية تتوافق في أغلب عناصرها ومحركاتها مع التفكير الديني المتطرف، ولا تختلف عنه إلا بالطقوس الحياتية والشعارات المرفوعة.
تلتقي هذه العلمانية مع الاستبداد من أي نوع إلا الاستبداد الديني، فهي تعايشت مثلًا مع الاستبداد البعثي، وهذا ليس غريبًا طالما أن هذه القوى بالأصل قوى مستبدة، وقد أخرجت موضوعة الاستبداد من أجندتها “الحداثية” كما لو أن الحداثة، على اختلاف تأويلاتها، ممكنة في ظل الاستبداد. وبهذا التجاهل الواسع لموضوعة الاستبداد، موضعت قوى اليسار الشيوعي نفسها في مكان قريب من ذاك الذي تقف فيه القوى العسكرية والأمنية، حارسة النظام الاستبدادي، وبررت ذلك بشعارات العلمانية التي ترفعها.
معظم هذا اليسار ما زال يعيش أسيرَ مفهومات محنطة جاءت الثورات لتعلن هزيمتها – وهي هزيمة قديمة جرت تغطية عوراتها بالاستبداد طويلًا – كدور الحزب القائد والطليعة الثورية والصراع الطبقي وغيرها، لكنه ما زال مستمرًا في التمويه على هذه الهزيمة من خلال مقولات أيديولوجية بحت لا تصمد أمام اختبارات الواقع، كاجترار مقولات الممانعة والمقاومة والصمود والتصدي واتهام الثورات بسائر الموبقات التي هي من صنع الأنظمة الحاكمة وكل من دار في فلكها من “نخب” و”مثقفين” و”أحزاب”.
2- العلمانية الشوفينية؛ ويمثلها “الحزب السوري القومي الاجتماعي”، وهي علمانية عصابية متوترة مصطبغة بشوفينية قومية تجعلها متصالحة مع قوى الاستبداد العسكري والأمني على طول الخط تحت عنوان مواجهة التطرف والأصولية. وغالبًا ما يتحدث الحزب عن نشر “عقيدته القومية الاجتماعية العلمانية”، كما يتحدث التكفيريون، في الوقت الذي تحول العديد من أعضائه نحو الولاء للطائفة بعد تاريخ حافل من التعصب لـ “العقيدة العلمانية”، لأسباب تتعلق بالطابع الإيماني المعتقدي، أو لأسباب مادية أو مصلحية.
3- العلمانية الطائفية؛ وهي علمانية سطحية شائعة لدى بعض أصحاب التفكير الأقلوي من أبناء “الأقليات الدينية” الذين تعاملوا مع العلمانية بوصفها شعارًا وحسب للوقوف في وجه التطرف الإسلامي، على الرغم من عدم اختلاف طريقة تعاطيهم مع مذاهبهم وطوائفهم عن طرائق التكفيريين والجهاديين. هذا الفهم السطحي يتكشّف في المآل عن قاعٍ طائفي دفين في التفكير، وعن موقف متعالٍ ومتعجرفٍ إزاء الآخر المختلف. فالعلمانية هنا لا تعني إلا موقفًا شكلانيًا من المرأة وطقسًا كحوليًا لا غير، على الرغم من إقرارنا بأهمية الاعتراف بالحريات الشخصية بالطبع، لكنها للأسف لا تتجاوز هذا الحدّ، ولا تصل إلى الوقوف ضد الاستبداد السياسي بوضوح.
وجدير بالملاحظة أن بعض الحديث الطائفي، أو الحديث الذي يستند إلى قاع طائفي في العمق، وإن بدا في ظاهره أنه ضد الطائفية، إنما يأتي بشكل أساسي اليوم من هذه الفئة المتخوفة التي عرف النظام الحاكم كيف يستثمر خوفها. بالطبع هذا الخوف مشروع في ضوء الطريقة التي أدار بها النظام الدولة والمجتمع لمدة عقود مانعًا تشكل هوية وطنية جامعة. لكن لا يمكن، من جانب آخر، إنكار وجود “مثقفين” داخل هذه الفئة يصدرون خطابًا يمكن تسميته بـ “الخطاب اللاطائفي الطائفي”، وهو الخطاب المضاد للطائفية لكن بالاستناد إليها. ومما لا شك فيه أن العلمانيّة لا تلتقي مع هذا الخطاب الذي تقدّمه العلمانيّات الطائفية (أو بالأحرى الطائفيّون الذين يتسترون بقشرة علمانية شكلية).
4- العلمانية المختزلة؛ وهي العلمانية التي لا يفهم منها إلا استبعاد رجال الدين عن الدولة، ولا يهم هنا طبيعة نظام الحكم القائم، فيما يكون الدستور ونظم التشريع والتعليم وغيرها خاضعة للتشريع الإسلامي، والدولة هنا هي ما يشار لها بالدولة المدنية بحسب التعريفات الأولية لها التي صاغها الإمام محمد عبده، ومن بعده حركة الإخوان المسلمين التي حدّدتها في صيغ تتناقض مع مفهوم الدولة الحديثة أصلًا، وتوافق معها بعض العلمانيين جهلًا أو مكرًا.
5- العلمانية السلطوية؛ وهي علمانية أنظمة الحكم والأحزاب الحاكمة. وهذه اعتدنا منها استخدام الدين لتثبيت شرعية الحكم، أي أنها في الوقت الذي ترفض فيه تدخل الدين في الحكم فإنها لا تتورع عن استخدامه في سبيل تثبيت نفسها، جاعلة من رجال الدين، وبالتالي الدين ذاته، مطيةً لها، ولا سيّما عندما يصعدون إلى منابر الجوامع والكنائس يدعون للرؤساء والملوك بطول البقاء. كذلك، تعاملت العلمانية السلطوية مع المسيحيين بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية، وهذا يظهر في الدستور الذي يشترط أن يكون رئيس الدولة مسلمًا، بما يتناقض مع أهم أسس العلمانية، أي المواطنة المتساوية. ويترافق هذا النمط من العلمانية مع سيطرة عقيدة الحزب الحاكم على الدولة والمجتمع، تمامًا كما تسيطر العقيدة الدينية في الدول غير العلمانية.
6- العلمانية المتأسلمة؛ وهي علمانية بعض أهل اليسار والليبراليين الذين وقفوا مع الثورة السورية لكنهم ساروا في اتجاه مجامل للإسلام الأصولي وصمتوا عن تشكيلات متطرفة بوضوح أو سوَّغوا أعمالها أو امتدحوها، نظرًا إلى أنهم يرون أن معركتهم هي مع النظام الحاكم المستبد وحسب. لكن العنصر الحاسم في توجههم كان شعبويتهم وذهابهم نحو الحصول على كسب الشارع السوري المنتفض بأي طريقة كانت.
7- العلمانية المعولمة؛ وهي نمط من العلمانية المحكومة باعتبارات السوق العالمية التي تتطلب بالضرورة تحييد الثقافات المحلية، ومنها الأديان، وكذلك الاعتبارات الوطنية، لمصلحة ثقافة عالمية تسهل انتقال البضائع والبشر، وهي شائعة خصوصًا في أوساط رجال الأعمال الجدد المندرجين في آليات النظام الحاكم.
8- العلمانية القومية؛ أي علمانية البعث والناصريين على وجه الخصوص. إذ تشير تجربة الطرفين في الحكم والمعارضة إلى غياب الديمقراطية في الفكر والممارسة، بخاصة لجهة اقتناعهما بدور كل منهما كحزب قائد. ومن جانب ثان تصالحهما مع الثقافة الدينية بعناصرها كافة جنبًا إلى جنب مع رفضها سياسيًا، ولا سيّما عندما يتعلق الأمر بحركة “الإخوان المسلمين”.
في أحوال ما قبل الثورة السورية كان الكثير من الناصريون يخافون من كلمة علمانية. اليوم بقدرة قادر أصبحوا يدافعون عنها، والسبب بالطبع لا يدلِّل على تقدم ثقافي بقدر ما يستند إلى عداء تاريخي مع الإخوان المسلمين، والأمر ذاته ينطبق على البعث. أما تجربة حزب البعث في السلطة فتشير إلى أنه كان الأكثر سلفيّة، وكان شأنه في ذلك شأن الحكومات الإسلامية السلفية التي تهيمن على الدولة والمجتمع والإعلام والتعليم، فقد كانت ظاهرة التبعيث مطابقة تمامًا لظاهرة الأسلمة بعناصرها وآلياتها كافة، وينحصر الخلاف في الشعارات المرفوعة فحسب.
9- علمانية شعبية؛ وهي شائعة في أوساط شعبية إسلامية متدينة لكنها منفتحة، ولا تسمي توجهاتها بالعلمانية بالطبع، بل تتعاطى مع الموضوع من باب الحس الوطني والتسامح الديني. ولا أبالغ بالقول إن هذه العلمانية الشعبية تتوافق مع الكتلة الأكبر من الشعب السوري.
لقد كان الشارع السوري المنتفض خلال الأشهر الأولى من الثورة “علمانيًّا” على مستوى السلوك أكثرَ من أصحاب العَلمانيّات المشوهة، فهو لم يتظاهر من أجل إقامة حكم إسلامي، ولا تحرّك بإرادة رجال الدين أو الأحزاب الدينية، وإنما خرج ثائرًا من أجل الحرية والكرامة في وجه نظام استبدادي وفاسد. وقد حدَّد الشارع موقفه من الجميع آنذاك استنادًا إلى اعتبارات المواطنة، فهو لم ينظر مثلًا بعين الاحترام إلى عدد من رجال الدين الإسلامي الذين وقفوا ضد طموحات شعبهم.
أما حساسية الشارع السوري، والعربي عمومًا، تجاه مفردة “العلمانية” فتعود بالدرجة الأولى إلى ارتباط هذه الكلمة بسياسات النظام الاستبدادي الذي حاول تقديم نفسه على أنه نظامٌ علماني. هذه العلمانية الشعبية يغطي عليها اليوم تحول الثورة السلمية إلى ثورة مسلحة ودخول بعض الجهاديين بفعل البيئة الخصبة التي خلقها النظام بشكل أساسي.
10- علمانية المصالح؛ وهي علمانية قسم من رجال الأعمال الذين تتوافق مصالحهم مع نمط حكم بعيد عن سيطرة رجال الدين وأقرب للانسجام مع قوانين العالم، على الرغم من كون بعضهم متدينين. ويمكن القول إن التجار والصناعيين في دمشق وحلب وحمص يتوافقون مع نمط حكم يحترم الأديان لكنه يمنع تدخل الدين ورجاله في الشؤون السياسية والاقتصادية.
حازم نهار – صحيفة المدن الإلكترونية