تقترب الحملة العسكرية التي تشنّها الأجهزة الأمنية الفلسطينية في مخيم جنين، شمال الضفة الغربية، من يومها الأربعين، تحت مسمى “حماية وطن” ضد الفصائل الفلسطينية وتحديداً “كتيبة جنين”، التي تصف السلطة مقاتليها بالخارجين عن القانون، وسط تصاعد للتوتر والخلافات بين الطرفين واشتباكات عنيفة.
ويتساءل سكان المدينة عن جدوى ذلك، في ظل الاقتحامات والاستهدافات الإسرائيلية اليومية للضفة، والحياة غير الطبيعية التي يعيشها أكثر من مليونين ونصف مليون فلسطيني، من جراء الاقتحامات المتواصلة للمدن الفلسطينية داخل مناطق “ألف” واعتداءات المستوطنين وحرقهم المحاصيل الزراعية والأراضي وسرقة المواشي في منطقتي “بي” و”سي”، ومئات الحواجز الترابية والبوابات التي تقطع أوصال المدن والقرى والغارات الإسرائيلية على المخيمات ومحيطها منذ 15شهراً ووصلت إلى أكثر من 110 غارات، وقتلت ما يقارب 900 فلسطيني.
ويعبّر كثر عن استيائهم معتبرين أن الحملة تستهدف المقاومة وبنيتها التحتية أكثر من كونها تستهدف أي شيء آخر، وأنها قرار سياسي أميركي – إسرائيلي، وأن السلطة تريد إثبات قدرتها على السيطرة على الأراضي الفلسطينية وإدارتها استعداداً لوصول الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة دونالد ترامب.
في المقابل يعبّر آخرون عن ارتياحهم معتبرين أن على الفلسطينيين في الضفة تعلم الدرس مما حدث خلال حربي غزة وجنوب لبنان، من جراء القصف الوحشي والهجمات الإسرائيلية التي أبادت مدناً وأحياءً بأكملها وخلفت آلاف الضحايا.
وهكذا يقف أهالي مخيم جنين بين مطرقة الآلة العسكرية الإسرائيلية وسندان الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، فيما قال الناطق باسم الأجهزة الأمنية العميد أنور رجب خلال مؤتمر صحافي: “هدفنا من هذه الحملة هو القبض على هؤلاء الخارجين عن القانون، وتقديمهم إلى العدالة لمنع الفوضى والسماح لشعبنا بالعيش بشكل طبيعي”.
الرقم الصعب
تبدو مدينة جنين وكأن هناك من انتزع روحها، فالاحتقان على أشده، وتنتشر الحواجز التي أقامها عناصر من الأجهزة الأمنية على مداخلها، توقف بعض السيارات وتطلب البطاقات الشخصية لفحصها، وقد تصل الإجراءات في بعض الأحيان إلى تفتيش بعض السيارات، أزمة سير متقطعة في مركز المدينة، بينما حركة الناس في الشوارع بطيئة والأسواق شبه خالية، وسط اشتباكات متقطعة بين الفينة والأخرى.
المخيم والمنطقة التي تمكنّا من دخولها بدَوَا كمدينة أشباح، الشوارع مدمرة والمياه الملوثة تملأها، بينما تغلق مداخلها المركبات العسكرية المصفحة التابعة للأجهزة الأمنية، التي تحاصر محيط المخيم من كل الاتجاهات، وقناصة السلطة يعتلون أسطح البنايات العالية. الخطر كبير جداً، وخاصة بعد سقوط 6 مدنيين قتلى.
“النهار” التقت داخل المخيم عائلات شهداء وجرحى ومعتقلين، وتتحفظ عن ذكر أي أسماء، إذ إن الكثير من الصحافيين والأهالي والمحللين السياسيين والنشطاء تعرّضوا للاعتقال أو الاستدعاء والمساءلة من قبل السلطة الفلسطينية.
إحدى الأكاديميات قالت لـ”النهار” إنها تشعر بالحزن وهي ترى “السلطة الفلسطينية تشن حرباً ضد شعبها، فهي تقوم بعمل الإسرائيليين، ومن حقنا، بل من واجبنا مقاومة الاحتلال، لا نريد أن نكون من الذين تخلوا عن حقهم في مقاومة الاحتلال من أجل مساومات أو مناصب معينة”.
وأضافت أنه “حتى بعد قرار الحكومة الإسرائيلية والكنيست في حزيران (يونيو) الماضي إعادة المستوطنين والاستيطان في منطقة جنين، لا يزال المستوطنون يرفضون العودة إلى المستوطنات الأربع المخلاة”.
أحد النشطاء وهو رجل أمن فلسطيني سابق أشار إلى أنه “خلال الانتفاضة الثانية في مواجهتنا مع إسرائيل كنا، رئيساً وأجهزة أمنية وشعباً موحدين، أما اليوم فالرئيس والأجهزة الأمنية يقفون جداراً في مقاومتنا للاحتلال”.
وتابع: “بسبب وجود الكتيبة والتصدي المستمر لا يستطيع أي مستوطن الدخول بحرية إلى جنين، هم درعنا الحامي والواقي، بينما لا أحد يمنعهم من العربدة والاعتداء على سكان مدينة الخليل مثلاً أو في قرى جنوبي نابلس”.
رب عائلة شهيد سقط خلال مواجهة مع الاحتلال قال لـ”النهار” إن “عناصر الأجهزة الأمنية جاؤوا إلى المنطقة وبدأوا بتفتيش كل المنازل وأخرجونا، زوجتي وابني الذي يبلغ 11 عاماً وابنتي، ثم ألقوا قنبلة وخلال ثوانٍ اشتعل المنزل بما فيه، واعتُقل ابني الذي يبلغ 21 عاماً وهو مصاب، وبعد كل ما فقدته حتى الآن أريد الحفاظ على حياة أبنائي والتقدم بشكوى إلى المحكمة وأطلب مساعدة المنظمات الحقوقية وهيئات حقوق الإنسان. ما يحدث هنا خارج كل الأعراف والقوانين الفلسطينية والدولية”.
أبو يوسف يقطن في المخيم عبّر عن خشيته على نفسيات الأطفال، ففي “المخيم تبلغ نسبة من هم تحت سن 18 عاماً ما بين 60-65 في المئة من مجموع السكان، ولدي أربعة أحفاد في المنزل أغلبهم لا ينامون، فلا مدارس منذ أكثر من شهر، يتحدثون فقط عن الاشتباكات وإطلاق النار ويقومون بجمع الرصاص، وهم مصدومون من أن الأجهزة الأمنية تطلق النار على المنازل وتحرقها تماماً كما يفعل جيش الاحتلال”.
ختم أبو يوسف حديثه وهو يذرف الدموع ويقول: “كيف لي أن أفضّل مقاتلي الكتيبة على عناصر الأجهزة الأمنية أو العكس فالطرفان من أبنائي، من دمنا ولحمنا”.
العلامات الدالة