الحرب لا يخوضها الجنود في ساحة المعركة فحسب؛ إنها أيضًا في مجال المعلومات من أجل كسب قلوب السكان وعقولهم. ينطبق هذا القول على أي حرب حديثة، اذ يكون تمثلها لدى الجمهور البعيد جزءاً منها، وجزءا من النصر أو الهزيمة، أو بشكل أدق جزءاً من تحديد طبيعة النصر والهزيمة. منذ ولادة الكيان الإسرائيلي، قبل نحو ثمانية عقود، لعبت إسرائيل لعبة الحرب الإعلامية والنفسية ببراعة، لكن ذلك الزمن قد أدبر. منذ حرب تموز(يوليو) 2006 على لبنان وصولاً إلى “طوفان الأقصى”، الذي مازال جارياً، انكسرت صورة الدعاية الإسرائيلية المظفرة، وأصبح عدوها العربي قادراً على تجاوزها نحو تثبيت روايته، ليس فقط لدى جمهوره، بل في مركز العالم. ولقياس ذلك لابد من متابعة حركة التضامن الواسعة دولياً مع غزة والشعب الفلسطيني، والتي تجاوزت كل جولات التضامن السابقة سواء من حيث نوع المتضامنين، المتنوع، أم من حيث حجم التظاهرات. وذلك مؤشر دال الى فشل الاستراتيجية الإعلامية الإسرائيلية.
تعني كلمة “هاسبارا” في اللغة العبرية التفسير. وهي الاسم الذي يطلق على الدعاية الإسرائيلية الموجهة إلى الخارج، يتم استخدام هذا المعنى بدلاً من الدعاية ضمن دواعٍ أخلاقوية تقدم إسرائيل دائماً في موقع الضحية، فالأشرار هم الذين يصنعون الدعاية، للترويج لأهدافهم وقصصهم من خلال فبركة الحقائق والتلاعب بوسائل الإعلام وخداع من يصدقها. والــ “هاسبارا” هي فعل الأخيار للتفسير والتوضيح. وكما يرى إيال سيفان وأرميل لابوري، في كتابهما ” الدعاية الإسرائيلية: التفسير والإغراء” (2016)، يعكس هذا وجهة نظر واسعة النطاق في إسرائيل وبين أصدقائها مفادها أن السياسات الإسرائيلية يساء فهمها في الخارج. إن تصور إسرائيل كدولة عدوانية وغير عادلة هو سوء فهم حسب زعمهم؛ ولذلك، سيكون كافياً تكثيف الجهود لشرح “مدى خيرية هذه الدولة ” حتى يتم قبول السياسات الإسرائيلية وتلقي الدعم الدولي. ولكن الـ “هسبارا” أيضاً، وفي المقام الأول، أداة مسؤولة عن شرح السياسات الإسرائيلية، وتوفير العناصر اللازمة لإقناع الخصوم ومساعدة المترددين في تمييز “الأشرار” في الصراع. كما أن لها وظيفة إسكات المنتقدين لإسرائيل في جميع أنحاء العالم. لكن هذه الـ”هاسبارا ” لم تعد بنفس روح الشباب التي كانت عليها قبل عقود، حيث ظهرت رثةً وهشةً أمام الدعاية الفلسطينية المضادة والفتية.
بدت الاستراتيجية الإعلامية والمعلوماتية الإسرائيلية في هذه الجولة من الصراع استمراراً للحملات السابقة، من خلال الاعتماد على الميديا الغربية الموجهة من طرف اللوبي الإسرائيلي في أوروبا والولايات المتحدة، وكذلك المسنودة من الرأسمالية المرتبطة بمراكز مالية وإدارية مقربة من الدولة العبرية. وتدعم الاستراتيجية الإسرائيلية مضاعفة “الروايات” من أجل بث الشكّ الدائم داخل المجتمعات المستهدفة، وهي أساساً المجتمعات الغربية والمجتمع المحلي. وهذا الشكّ يكون دائماً موجهاً نحو الانتهاكات الإنسانية التي تقوم بها.
كان هذا النهج واضحاً في عملية قصف المستشفى المعمداني، اذ صنعت الدعاية الإسرائيلية روايةً غربية حول قيام منظمة فلسطينية بقصف المستشفى، والأغرب من ذلك أن هذه الرواية وجدت لها صدى واسعا في وسائل الإعلام الغربية، وأصبحت الرواية الأساسية حول الحدث. كان ذلك يمكن أن يشكل نجاحاً للدعاية الإسرائيلية لو كنا في الثمانينات أو التسعينات، أما وقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، تمثل مجالاً بديلاً ومنافساً للميديا التقليدية، فإن هذه الرواية الإسرائيلية، وجدت الكثير من التشكيك والنقد وحتى السخرية. يضحك شاب أميركي في مقطع فيديو قصير من الادعاء الإسرائيلي قائلاً:” صاروخ فلسطيني معطوب يقتل خمسمئة شخص دفعة واحدة…. وعندما يسقط في إسرائيل بكامل صحته لا يقتل بعوضة !!!”.
أما الجانب الثاني لهذه الاستراتيجية الإسرائيلية فهو احتكار تداول المعلومات من طرف المؤسسة العسكرية. يلاحظ جميعنا العبارة التي تسبق أي خبر في الصحف والمواقع الإسرائيلية إذا تعلق الأمر بسير المعارك في قطاع غزة “ما سمح به الرقيب العسكري”.
هذه العبارة تلخص حالة تدفق المعلومات حول الحرب، الخاضع لمكتب رئيس الأركان، الذي تحول إلى مصدر وحيد لكل المعلومات بما في ذلك تلك المعلومات التي تنقلها المؤسسات الإعلامية في أوروبا والولايات المتحدة. يحدث ذلك وسط منع إسرائيل لدخول مراسلي هذه المؤسسات بحرية إلى ساحة المعركة، إلا كمرافقين لوحدات جيش الاحتلال. وهذا ما يشكل إضعافاً كبيراً لمصداقية كل ما تبثه هذه الاستراتيجية الإعلامية نحو العالم.
لا يكمن سبب فشل الاستراتيجية الإعلامية والمعلوماتية الإسرائيلية فقط في حالة العصيان التي تمثل وسائل التواصل الاجتماعي، بل في نجاعة الاستراتيجية الإعلامية والمعلوماتية التي تنفذها المقاومة الفلسطينية. مستفيدةً من وجود بديل قوي ومؤثر لوسائل الإعلام التقليدية، تمحورت هذه الاستراتيجية في خمسة جوانب: عدالة القضية وشرعية الدفاع عن النفس؛ نجاحات عمليات المقاومة الفلسطينية؛ وحشية الردّ الإسرائيلي؛ تخبط العملية البرية الإسرائيلية؛ وحاجة قطاع غزة الملحة إلى الحصول على الدعم الإنساني والسياسي. فخلافاً للجانب الإسرائيلي، وثقت المقاومة الفلسطينية جميع عملياتها التي أعلنت عنها بالصوت والصورة، وقد نجحت هذه المقاطع القصيرة في تثبيت فكرة أساسية لدى الجمهور بأن المقاومة قوية وأن برنامج القضاء عليها، الذي تبشر به حكومة الحرب الإسرائيلية، لا يبدو واقعياً. في المقابل نجح الفلسطينيون في القطاع، من مواطنين وصحافيين ونشطاء، ومن خلال الهواتف ووسائل التواصل الاجتماعي في نقل صورة الوضع الإنساني الكارثي ووحشية العمليات الإسرائيلية العسكرية، وهي صورة لا تحضر بقوة في وسائل الإعلام التقليدية الغربية. هذه المقابلة بين الانكسار العسكري الإسرائيلي في مواجهة المقاومة من جهة، ووحشية إسرائيل تجاه المدنيين والصحافيين من جهة أخرى، كانت أحد الفروق الأساسية في نجاح الاستراتيجية الإعلامية والمعلوماتية الفلسطينية. وتالياً، كانت دافعاً حتى للمؤسسات الإعلامية الغربية في تعديل خطها التحريري تجاه الصراع. إن الدور الأساسي الذي يقوم به سكان غزة من خلال هواتفهم في جعل عملية تدفق المعلومات والصور من القطاع نحو العالم، يشكل رافداً لاستراتيجية المقاومة الإعلامية، اذ تساهم كل هذه البيانات في تطوير التحقيق المفتوح المصدر في المجازر التي ترتكبها إسرائيل، وكذلك في تكذيب رواياتها حول المستشفيات وحول انتصارات مزعومة على الأرض وكذلك في تعبئة المزيد من الرأي العام العالمي ضدها.