يخوض حزب “الشعب الجمهوري”، المعارضة الأم في تركيا، امتحاناً صعباً هو الأول من نوعه بعد النجاح الساحق الذي حققه في الانتخابات البلدية الأخيرة في آذار (مارس) الماضي، منتزعاً بلديات من “العدالة والتنمية” كان خسر بعضها منذ أكثر من نصف قرن.
وتلاحق دعاوى قضائية شخصيات بارزة في الحزب، بالتزامن مع عزل رؤساء بلديات منتخبين، ما يعكس المناخ السياسي المتوتر في تركيا التي أصبحت فيها الاتهامات بالفساد نقطة محورية في الصراع بين الحزب الحاكم والمعارضة.
تهم قضائيّة لرئيسَي بلديّتين في اسطنبول
منتشياً بالانتصار الذي حققه في سوريا، ومع الأخذ في الاعتبار أرقام استطلاعات الرأي التي تشير إلى تقدّم في شعبيته على حساب المعارضة، أعلن الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان عزمه على ملاحقة من أسماهم الفاسدين، في إشارة إلى رؤساء بلديات حزب “الشعب الجمهوري”.
تهديد أردوغان الذي جاء خلال خطابه في المؤتمر الثامن العادي لحزب “العدالة والتنمية” في محافظة قونية، سبقه تحقيق قضائي في قضية فساد متعلّقة برئيس بلدية بشكتاش في اسطنبول رضا أكبولات، الذي أبعد من منصبه بقرار حكومي بعد توقيفه إثر مداهمة منزله فجراً قبل أسبوع.
أكبولات ليس الأول من صفوف “الشعب الجمهوري” المستبعد من مهماته بعد انتخابه، فقد سبق لوزير الداخلية التركي أن عيّن وصيّاً حكومياً (قيّوم) بدلاً من رئيس بلدية اسنيورت في اسطنبول أحمد أوزر، من الحزب نفسه بعد توجيه تهم له بالضلوع في الإرهاب.
ولم يشفع لأوزر حصوله على ثناء من الرئيس أردوغان ومشاركته في المؤتمرات الحكومية المرتبطة باختصاصه الأكاديمي في التخطيط الحضري، ولا أبحاثه حول نتائج الإرهاب على ميتروبولات البلاد، في ثني السلطات التركية عن توجيه تهم الإرهاب له، بناء على “شهادة شخص هويّته غير معلنة لأسباب أمنية”.
وأثارت الاعتقالات غضباً داخل حزب “الشعب الجمهوري”، إذ اعتبر زعيمه أوزغور أوزال الاعتقالات جزءاً من حملة سياسية تستهدف رؤساء بلديات الحزب، واصفاً ذلك بأنه “سلسلة من اللا قانونية” داخل نظام عدالة مسيّس.
كما أعرب رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو عن دعمه أكبولات، منتقداً آليات الاعتقال، بما في ذلك مداهمة منزل رئيس بلدية فجراً وتوقيفه على ذمة التحقيق وكأنه سيهرب من البلاد إذا تمّت محاكمته من دون اعتقال، وغياب الشفافية في الإجراءات القانونية، فيما وصف رئيس فرع إسطنبول في الحزب أوزغور جيليك العملية بأنها “مؤامرة” تهدف إلى تقويض مصداقية الحزب المعارض.
المستهدف منافس أردوغان
وبعد تهديد أردوغان بملاحقة الفاسدين من رؤساء البلديات والمديرين، أعلنت النيابة العامة في إسطنبول فتحها “تحقيقات رسمية ضدّ رئيس بلدية إسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو بتهمة التهديد واستهداف الأشخاص المسؤولين عن مكافحة الإرهاب بسبب تصريحاته المهددة للمدعي العام في إسطنبول أكين جورليك وعائلته خلال برنامج تلفزيوني”.
وتأتي هذه الدعوى لتضاف إلى سابقتها المعروفة باسم “قضية الأحمق” حين ردّ إمام أوغلو على وصف وزير الداخلية سليمان صويلو إياه بأنه “أحمق” قائلاً: “من ألغوا نتائج الانتخابات هم الحمقى”، ليتم رفع دعوى قضائية ضده بتهمة “إهانة موظفين عامين أثناء أداء واجبهم”.
وفي 15 كانون الأول (ديسمبر) 2022، حكمت المحكمة على إمام أوغلو بالسجن لمدة عامين و7 أشهر وفرضت عليه حظراً سياسياً، وبعد صدور الحكم، قدم الفريق القانوني لإمام أوغلو استئنافاً لا يزال قيد النظر في محكمة إسطنبول، وفي حال تم رفض الاستئناف، فإن حكم إمام أوغلو سيصبح نهائياً، ما يؤدي إلى حظره السياسي ويؤثر بشكل كبير على تطلعاته السياسية المستقبلية، بما في ذلك إمكان توليه الرئاسة.
وفي كلمة له خلال تظاهرة منددة أمام بلدية اسطنبول، طالب إمام أوغلو الحكومة التركية بـ “التوقف عن ملاحقة زملائه بهدف الوصول إليه”، قائلاً: “بما أن مشكلتكم معي فتعالوا نتواجه في نظام قضائي عادل”.
ويعد إمام أوغلو المنافس الأبرز للرئيس رجب طيب أردوغان في أي استحقاق انتخابي قادم، وتكتسب الحملات التي تستهدفه أهمّية خاصة في ظل إصرار المعارضة، بقيادة حزب “الشعب الجمهوري”، على التوجه إلى انتخابات مبكّرة مستغلة تعثّر الخطط الحكومية الخاصة بالاقتصاد وتصاعد الامتعاض في الشارع التركي من الوضع المعيشي.
154 حالة عزل رئيس بلدية
إلى ذلك، يواجه العديد من رؤساء البلديات من الأحزاب المعارضة تحديات قانونية واعتقالات منذ الانتخابات المحلية التي أجريت في 31 آذار (مارس) 2024، وسط اتّهامات بتجاوز الحكومة واستخدام العمليات القضائية لقمع أصوات المعارضة.
ويتزايد القلق بشأن تداعيات سياسات تعيين الأوصياء على الحوكمة المحلية والعملية الديموقراطية في تركيا، كجزء من أجندة سياسية واضحة تهدف إلى تقويض سيطرة المعارضة في بلديات محددة ذات أهمية اقتصادية واجتماعية كبيرة، كما الحال بالنسبة إلى البلديات الكبرى، وبلديات إسطنبول.
ويكشف تقرير حزب “الشعب الجمهوري” عن الأوصياء بعنوان “تهديدات للديموقراطية والدستور في الانتخابات المحلية”، الذي تسلّمت “النهار” نسخة منه، عن تعيين حكومة الرئيس أردوغان أوصياء في 154 حالة على البلديات الكبرى والبلديات المحلية خلال السنوات الـ8 الماضية.
وتصدّرت ديار بكر، ذات الغالبية الكردية، قائمة المدن التي شهدت أكبر عدد من التعيينات بـ26 حالة، تليها وان ذات الغالبية الكردية أيضاً بـ23 حالة. وأشار التقرير إلى أن عدد الناخبين في البلديات التي تم تعيين أوصياء عليها بين 2016 و2024 بلغ 11 مليوناً وأكثر من 200 ألف ناخب.
وقبل انتخابات 31 آذار 2024، كانت 49 بلدية تحت إدارة الأوصياء، 9 منها انتقلت بعد الانتخابات إلى إدارة حزب “العدالة والتنمية” أو شريكه حزب “الحركة القومية”.
وتتضمن إستراتيجية الحكومة تعيين أوصياء في بلديات تتمتع فيها الأحزاب الإسلامية مثل حزب “هدى بار” الكردي بنفوذ قوي، مثل بلدية باتمان. ويُظهر ذلك جهداً محسوباً للسيطرة على الحوكمة المحلية في المناطق التي تتمتع فيها المعارضة، بخاصة الأحزاب الكردية واليسارية، بدعم شعبي كبير.
وأثارت الانتخابات في بلدية قارص، التي فاز بها حزب “الحركة القومية” بفارق 3,264 صوتاً، جدلاً بسبب عمليات نقل 3,821 قيداً لناخبين من مناطق أخرى، إضافة إلى إجراءات إدارية في الكثير من البلديات مثل تحويل صلاحيات أعضاء المجلس البلدي إلى الموظفين، ما يلغى الرقابة على الأوصياء، الذين تتسم إدارتهم بمظاهر الفساد والإسراف، بحسب التقرير.
وقالت غول تشيفتجي بينيجي نائبة رئيس حزب “الشعب الجمهوري” والمسؤولة عن الشوؤن القانونية والدستورية فيه لـ”النهار”، إن “قرار تعيين الأوصياء يتعارض مع الدستور، لا سيّما المواد 2 و5 و123و127، التي تضمن استقلالية الإدارات المحلية”. وطالبت الحكومة يـ “الامتناع عن محاولة هزيمة المعارضة بوسائل غير قانونية أو باستخدام السلطة بعد الفشل في صندوق الاقتراع”.
ويحذّر سياسيون وناشطون الأتراك من مغبّة تعيين أوصياء كتحد مباشر للمعايير الديموقراطية والحوكمة المحلية لتعزيز السلطة وتقليص نفوذ الأحزاب المعارضة، خصوصاً مع إضافة البلديات المؤثرة التي فاز بها حزب “الشعب الجمهوري”، بعد أن كانت هذه السياسات تستهدف البلديات في المناطق ذات الكثافة السكانية الكردية فقط.