نقصد بـ الجزراوي هنا، ابن الجزيرة السورية، كرديا كان ام عربياً او سريانيا- آشورياً، سليل الخيبات والمشكلات المتراكمة عبر التاريخ، وما نتج عن ذلك من قهر عام عبر التاريخ، تحوّل الى فرز مشوه، ووعياً اشكالياً بسبب التصحر السياسي الذي ساد خلال عقود، أحد جوانب هذا الفرز المشوّه ينعكس في الخطاب القومي المتشنج الاقصائي الانعزالي المتبادل الذي واكب مسار الازمة السورية، ويتجدد مع كل تصعيد عسكري بين سلطات الامر الواقع، كما هو الحال هذه الايام.
سنحاول هنا مقاربة هذه الظاهرة، وتفكيك وتحليل مقدماتها من خارج دائرة الوعي القومي الزائف السائد في الفضاء الالكتروني، حيث الاصطفاف المسبق كلٌّ مع جماعته، والسطحية الى تصل الى حد الابتذال أحياناً لدى البعض في تناول المشكلة، بما يؤدي الى تعقيدها أكثربين شركاء التاريخ والجغرافيا والمصير.
السمات المشتركة، والتشابه الذي يصل الى حد التطابق احياناً بين خطاب هذه الاطراف من حيث الشكل والمحتوى والذرائع، والنظر الى الاحداث من زاوية واحدة، يجعله خطاباً متخادماً مهما تمظهر بالاختلاف والتناقض، وهو ليس الا نوع من القَبَليّة السياسية، ومزيج من ردود الافعال السريعة والشحنات الانفعالية العاطفية التي تُفرّغ في غير موقعها، مستمدة من قهر جمعي مزمن متراكم على مدى عقود، وما نتج عنه من بنية نفسية قلقة، تتناوب ما بين الجموح والاحباط حسب وقائع اللحظة، ومبنية على اوهام تعكس التعقيد والتشويش الذي يخيم على المشهد، مما يؤدي الى جهل بالجذر الحقيقي للصراع الدائر في البلاد وحولها، وتالياً طريق الخروج من المأزق التاريخي الراهن، باختصار هو خطاب واحد في خلاصاته ومآلاته، وإن كان بنسخ متعددة، عربية كردية سريانية.
سنغامر هنا، ونقرأ المشهد من زاوية مختلفة عن السائد، وإنْ كنّا نعرف سلفاً اننا ندخل حقل الغام الاحكام والتهم الجاهزة، وترهات الموقف اليومي الذين يتوهم ايجاد حل خاص لجماعة ما وانقاذها، بمعزل عن الاخر ..
ليكُنْ، انه زمن قول الحقيقة عارية كما هي، فهذا أقل ما يمكن أن يفعله المرء في هذا المنعطف، الى أن يقول الشعب السوري كله كلمته الأخيرة.
تكوّن الوعي القومي العربي ضمن مفارقة تاريخية تتمثل في التناقض ما بين الأحلام الكبرى لاستعادة أمجاد الأمة والهزائم المتلاحقة في التاريخ العربي المعاصر، من النكبة الى النكسة الى انهيار نموذج الدولة القومية، ووجد نفسه في لحظة ما مهزوماً، يخسر كل شيء بما فيه الدولة القطرية قومية الطابع، وكان احتلال العراق لحظة فارقة والاكثر تأثيراً في سلسلة هذه الهزائم، وصدمة وجدانية بالنسبة للعربي الجزراوي، وجاءت موجة الاسلاموفوبيا ليتزاوج القهرالقومي مع الديني، جرى كل ذلك ضمن بنية اجتماعية هشة تجمع ما بين الاقتصاد الرعوي – الزراعي، والحداثة المدينية المشوّهة كجزء من التشوه العام السائد في تطور كل بلدان وشعوب الشرق، وفي سياق بنية حزبية سياسية أحادية غالباً، تقتصر على الانتساب الى الحزب الحاكم حصراً، أما من حاول ان يغرّد خارج السرب، كانت تهمة البعث اليميني جاهزة، وبكل ما تعنيه في بلد مثل سوريا.. وحتى ضمن حزب البعث نفسه تم اقصاء الكفاءات، ففي فرقة جنوب الرد مثلاً ورغم وجود المئات من الكفاءات، كان يحدث أن تفرض السلطة الامنية على الجميع أمين فرقة شبه أمّي، ضمن سياق تحويل هذا الحزب الى مفرخة لانتاج الانتهازية من خلال الامتيازات والمكاسب السلطوية.
اضف الى ذلك سعي السلطة الأمنية البائدة الدائم الى تصنيع زعامات عشائرية موازية غالباً للزعامات التقليدية الحقيقية، أو افتعال الخلافات بين الاخ وأخيه، أو بين هذا الفخذ العشائري أو ذاك، من خلال ثنائية – القمع والمكاسب- أجهز على ما تبقى من قيم عشائرية يمكن ان تكون شبكة أمان اجتماعي، ولتنسف دورها لا بمعنى التطور التاريخي بل باعادة انتاجها المشوّه.
أما النسخة الكردية من هذا الخطاب القومي المأزوم، يتحكم بها هاجس وحيد، ويتجسد بعدم انجاز اي مستوى من الكيانية القومية للشعب الكردي اسوة بالشعوب الاخرى في المنطقة / الترك العرب الايرانيين / يرى الكردي مغدوراً دائماً، و مخذولاً من الكل، ويحدد موقفه من كل شيء ومن الكل من خلال هذا الهاجس فقط، يظن إن الكردي وحده هو المظلوم، والآخرون في جنات النعيم، في هذا النوع من الوعي بالذات القومية، يتجاور الاحساس المشروع بالظلم، مع الجموح القومي الانعزالي، ومن ثم تعالياً أو تشكيكاً بحقائق الواقع الموضوعي، التي تفرزها الجغرافيا السياسية، وخصائص المسألة الكردية في سوريا نفسها، التي تؤكد على وحدة التاريخ والمصير والجغرافيا، وهو خطاب محمول على وهم القوة المستمد من وضع طارئ، ومتجسد بوجود تشكيل عسكري تجاوز عدده 100 الف، والحديث عن مشاريع وخرائط جديدة في المنطقة، والاستناد على ذلك، لفرض شروط مسبقة ومن جانب واحد على شكل سوريا اللاحق، وإلا فإن الكل ضدالكرد، ويحق لهم ان يفعلوا ما يريدون.
وهو الآخر – الخطاب – تبلور ضمن بنية اقتصادية اجتماعية هشة، لاتوفر حوامل حقيقية لحل مشكلة هذا الشعب، وبنية سياسية متشظية تجاوزت 100 حزب وحركة، بينهم ما صنع الحداد، حتى بات الموقف بحاجة الى الفرنسي والامريكي لصياغة موقف موحد.
الخطاب القومي السرياني – الاشوري هو الاخر ذو ذاكرة جمعية متخمة بالدم والمذابح والفرمانات، يضاف اليها قلقه الدائم من صعود ما يطلق عليه التطرف، والاحساس بالعجز والتهميش، في ظل التسابق بعض ابناء القوميات الأخرى في الجزيرة السورية على حصرية امتلاكها والحق في تقرير مصير هذه الجغرافيا بمعزل عن الاخرين.
في ظل هذه المأساة، ومن كل هذه المقدمات ينتعش هذا النموذج من الخطاب القومي بكل نسخه، ويتعالى صوت حوامله الدعائية – الثقافية، ومن هنا يستمد مبررات وجوده الطارىء ويُحدِث صدى ودوياً يضيف تعقيدات جديدة في المجال السوري العام.
اذا اردنا أن نختصر، سنقول: الجميع ضحايا صدمة الفوات التاريحي التي تحكم تطور عموم شعوب الشرق، وبلدانها والتي تفترض وحدة حراكها نحو الدولة الديمقراطية الواحدة، وليس العكس، الكل يطرح اسئلة مشروعة، ولكن مع الاسف دون ان تقترن بإجابات صحيحة وواقعية غالباً، وبمعنى أوضح، كل مكونات المنطقة تدفع ثمن المسار التاريخي المشوه منذ سايكس بيكو مروراً بعجز نموذج الدولة الوطنية عن حل مهامها الديمقراطية بسبب سياسات السلطات المتعاقبة، الى سنوات الازمة العجاف وتداعياتها.
هوامش:
لايكفي الحديث عن الاخوة والجيرة على اهميته، ولا يكفي ان يعلن هذا الطرف أو ذاك انه ضد التقسيم ومع وحدة سوريا.. كل من يراهن اليوم على القوة العسكرية في حسم الصراع هو عملياً اداة تقسيم بغض النظر عن نواياه، سواء كان استقواء بالامريكي او التركي.
إن البقاء ضمن دائرة التجاذب التركي – الامريكي له احد نتيجتين لاثالث لهما:
– اما صفقة امريكية – تركية بالتخلي عن قسد، بكل ما يعنيه وذلك لايعني حل المشكلة كما يتوهم البعض، فالمشكلة الكردية قائمة قبل قسد، وهي مشكلة سياسية قبل ان تكون أمنية وعسكرية.. ولمن يحاول ان يقزم الوجود الكردي في سوريا ويدخل في دوّامة الأرقام والنسب، فإن اضطراب المشهد الاقليمي، وامتداد الملف الكردي في دول الجوار وحده كفيل بابقاء هذه المشكلة كأداة توتير، اذا لم يتوفر حل ديمقراطي عادل متوافق عليه سورياً.
– او استمرار الوضع القائم، وهو ما يعني تهديد وحدة سوريا لمن يهمه ذلك، واستمرار البقاء تحت الضغط التركي لمن يريد التخلص من ذلك.
– على من لا يرى في البلاد مشكلة سوى قسد، )التي تحتل الجزيرة العربية في سوريا ..( ولم يبق إلا أن يحمّل قسد مسؤولية سقوط الاندلس، دون إعمال العقل والتحليل في فهم المشكلة بكل ابعادها كشرط ضروري لحلها ان يتعظ، قسد و/ مهما كان موقفنا منها / ليست إلا واحدة من افرازات وضع سياسي شاذ مرت به البلاد، اي انها مشكلة فرعية في وضع عام لايمكن حلها الا من خلال حل عام حقيقي، وعلى من يظن أنه قادر على فرض شروط مسبقة في غابة الذئاب الدولية والاقليمية من خلال السير على حافة الهاوية والتوهم بحاجة الكل اليه، وفرض نموذجه من اللامركزية كما هي، ايضاً أن يتعظ، ومن هنا كان الخيار الوحيد أمام الجميع بدلاً عن هذه المعارك العبثية أن يكون اداة ضغط من أجل التوافق على حل عام، من خلال طاولة حوار وطني واسع علني شفاف دون اقصاء أو شروط مسبقة من اي طرف، وخارج ذهنية الاستقواء بالتركي او بالامريكي والفرنسي…، وبعيداً عن ادعاء الملكية الحصرية لهذه الارض فهذه الجغرافيا هي عربية بقدر ما هي كردية، وهي كردية بقدر ما هي عربية، وهي سريانية بقدر ما هي عربية وكردية، واقصاء أياً كان هو اقصاء للآخر في الوقت نفسه لمن يريد أن يفهم، هكذا اراد لها مسار التطور التاريخي، وهكذا ستبقى.