قدم الباحث وعالم النفس السلوكي الدنماركي هنريك تينغليف Henrik Tingleff في حلقة إذاعية لهيئة البث العام الدنماركية (بي 1 لايف) أذيعت في الآونة الأخيرة قراءته النفسية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، بعد وصوله مجددًا إلى البيت الأبيض.
والاهتمام بالسلوك النفسي الترامبي في هذا البلد الإسكندنافي الصغير (الدنمارك 5.6 مليون نسمة) يأتي على خلفية صدمة مجتمعه من تصميم ترامب على انتزاع جزيرة غرينلاند القطبية الشمالية (2 مليون كيلومتر مربع) من تاج كومنولث المملكة (تضم الدنمارك وغرينلاند وجزر الفارو في شمال الأطلسي).
عملية تشريح السلوك الترامبي يقدمها تينغليف كمثال ساطع على توحش الأنا (الإيغو)، بحيث يتحول اختيار أغلبية الأميركيين له ربما إلى مرآة لطبيعة ناس ذلك المجتمع وأناهم. يقول تينغليف إنه كلما زاد الضغط الذي يواجهه البشر زاد الميل نحو اختيار قادة أكثر سيطرة وأكثر أنانية.
الترامبية في تسويق “الأنا المتوحشة”
بذراعين ملوحين ومنكبين عريضين وصوت مرتفع لجسد ضخم بطول 1.90 متر فإن ترامب يبدو “غير مبال تمامًا لا بالأعراف ولا بالقواعد الصارمة المملة”، وفقا للمنظور السلوكي النفسي عند تينغليف، مؤلف كتاب “إيغودوير”: وحش الأنا. وبالنسبة له فإن اختيار الأميركيين لترامب هنا يأتي على خلفية عكسه الصورة الوحشية للـ “أنا” عند البشر.
في البرنامج الإذاعي الدنماركي، يوضح الباحث أن تحليله يستند إلى مجموعة واسعة من الدراسات والتجارب النفسية المعروفة عند علماء نفس اجتماعي آخرين، أمثال سولومون آش، وستانلي ميلغرام، وفيليب جي زيمباردو.
إذًا، “وحش الأنا هو الإرث التطوري الموروث، والموجود فيك وفيّ، وبهدف اكتساب المزيد من النفوذ والموارد والمكانة الأعلى (المرموقة)”. غير بعيد عن ذلك لدى تينغليف، فإن “أنا ترامب المتوحشة”، لم تثن الناخب الأميركي عن اختياره، وفيها تتغلب الكاريزما على الكفاءة لتعكس “الأنا المتوحشة” البشرية الجمعية.
“برأي تينغليف، إن تفوهات وتصرفات ترامب في الفضاء العام، من زاوية السلوك النفسي، تختزل ظهور توحش الأنا البشرية، بحيث تصير الكاريزما، لا الكفاءة والمعرفة، هي الجاذبة للناخب الأميركي”
يلفت تينغليف إلى أننا في سلوكنا الاجتماعي نقوم بتصرفات مستندة إلى المقارنات، كمقارنة سيارات بعضنا البعض وملابسنا وألقابنا وسلوكياتنا عمومًا. وكمثل على ذلك، يقول إنك حين تشعر برغبة رمي مفتاح سيارة “بي أم دبليو” على الطاولة التي تتشاركها وأناس آخرون فأنت تريد إرسال رسالة مؤداها أنك ناجح في الحياة.
كذلك حين يكون المرء مشاركًا في اجتماع ويبدأ يشعر بالضغط لأنه لم يدلِ بشيء فهو سيحاول بقوة قول شيء، لإظهار أنه يعرف أيضًا عن الموضوع مثار النقاش، على ما يذهب تينغليف.
عليه، ووفقًا لقراءته، فإن تلك القواعد السلوكية تساهم أيضًا في اختيار الناس لـ “زعيم المجموعة، وعلى سبيل المثال على شكل رئيس بلد”.
في السياق، فإن الكاريزما تحضر أكثر من الكفاءة، “لأننا كبشر مصَممون للبحث عن بعض العلامات البسيطة جدًا حول المكانة والقوة”.
في أعين جمهور ترامب، فإن في لغته الجسدية ونبرته المرتفعة، ومظهره عمومًا، ثمة ما ينجذب إليه البشر في تركيبتهم الطبيعية، بل وبعض التركيبات تنجذب للخضوع لتلك النماذج من الناس. خلاصة ذلك، برأي تينغليف، أن تفوهات وتصرفات ترامب في الفضاء العام، من زاوية السلوك النفسي، تختزل ظهور توحش الأنا البشرية، بحيث تصير الكاريزما، لا الكفاءة والمعرفة، هي الجاذبة للناخب الأميركي.
عملية تشريح السلوك الترامبي يقدمها العالم تينغليف كمثال ساطع على توحش الأنا (الإيغو)
ذكر “ألفا” متزعمًا القطيع
في التاريخ الأميركي، استنادًا إلى أبحاث سلوكية أميركية، لطالما اكتسب الرؤساء الأكثر كاريزمية معدلات تأييد شعبي أكثر من غيرهم، حتى وإن لم يحققوا ما وضعوه من أهداف على أجنداتهم السياسية.
وللصورة وجه آخر، شعبوية ترامب، ومن يشبهه بالطبع في توحش الأنانية السلطوية، يمكن برأي تينغليف أن تصطدم بتراجع الانبهار به، حين يبدأ الناس القياس على أساس أناهم الحيوانية، أي ما يحصلون عليه من منافع جعل شخص ترامب هدفًا لإيصاله إلى السلطة مجددًا.
أمام توحش الأنا في أجواء الانبهار الشعبوي يكون من الصعب على منافسين التفوق عليه، كما يشرح تينغليف، إذ تظل في جعبته دائمًا ورقة رابحة تتمحور حول الافتنان بمن يكسرون القواعد، أو بأولئك الذين يفعلون ما هو غير مقبول اجتماعيًا في العادة.
ولعل هذا الافتنان البشري يفسر الانبهار والإعجاب بشخصيات عبر التاريخ، وهمية كانت أم حقيقية، أو حتى استحضار “قوة” و”كاريزما” هذا الزعيم أو السياسي الباقي والراحل، وإن جاء من خلفيات عسكريتارية وتسلطية استبدادية.
إسقاطات ذلك على علاقة المواطن الأميركي (من انتخبوه) بترامب قد توضح عدم تمكن المرشحين الآخرين في عام 2016 من مطابقة أسلوبه والفوز عليه. والـ “أنا” الداخلية للمواطنين الأميركيين، دائمًا من منظور علم النفس السلوكي عند تينغليف، تدفعهم أفرادًا وجماعات إلى تضخيم “أنا ترامب المتوحشة”، بحيث يتأكد بنفسه، من خلال أناه، من ضمان حصول المفتتنين به ولو على القليل من الأشياء، كتقدير الذات وبعض مكاسب اقتصادية ومنها ملء خزانات الوقود بأسعار رخيصة.
بعبارة أخرى، فإنه بتلبية بعض متطلبات “أنا” دواخل البشر، كما يعبّر تينغليف، فإنهم يبدون استعدادًا للذهاب إلى أبعد مدى من أجل الزعيم، حتى لو كان سيئًا ويلاحق جنائيًا ويُحاكم بقضايا متعددة. ويرى تينغليف أن “الأمر الأهم أنه طالما أنني أحصل على شيء منه فأنا في الواقع أنظر إلى الذكر ألفا (المهيمن في القطيع) الذي يكسر القواعد نيابة عني”.
ولربما تفسر تلك الخلفية صياغة ترامب لبعض وعوده إلى الأميركيين، كما في شعاره “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”، وغير ذلك، ولو لم تقدم في الواقع سوى لقيمات صغيرة للناخبين، لكنها من ناحية أخرى تقوم بعملية تغذية نفسية لوحوش “أنا” خاصتهم.
ووفقًا لمنظور تينغليف في علم النفس السلوكي عند البشر، لاستمرار الاهتمام الشعبي بـ “الزعيم” ترامب تتواصل وعود لقيمات صغيرة، وبدون ضجيج مفتعل سيفقد الجمهور متعة تغذية الـ “أنا”، وأنه يمكن ملاحظة ذلك في سياسات ترامب الاستعراضية عن المهاجرين والمثليين وغيرها من قرارات تغذي توحش “أنا” الجمهور المتلقي؛ فخفوت وتراجع التغذية “وعدم الاستفادة من كسرك القواعد يعني البحث عن شخص آخر يلبي تلك التغذية”.
في سياق ذات العلم يبدو أن جائحة كورونا في عام 2020 أدت إلى خسارته. ففي ذروتها عجز دونالد ترامب عن إنقاذ الوضع وإعطاء الناس شيئًا، ما جعل ناخبيه، بحسب تينغليف، يحسبونها على أساس أناهم: “عندما لا أحصل على أي شيء من الشخص الذي يخالف القواعد فسوف أختار غيره”.
وفي ظروف ضاغطة وفي ظل الحاجة إلى قرارات سريعة واستراتيجيات بدائية على مستوى الزعامة يتوجه الناس (الناخبون) نحو البدائل، التي تبحث أيضًا عن “قادة أكثر رجولة وهيمنة وأنانية”، كما يختم عالم النفس السلوكي الدنماركي هنريك تينغليف.
شارك هذا المقال