تكرّرت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي صدمت العالم، وتحديداً في ما يخصّ ضمّ جزيرة غرينلاند واستعادة قناة بناما، وصولاً إلى السيطرة على غزة وترحيل سكانها. وبغض النظر عمّا إن كانت هذه التصريحات تأتي في سياق رفع سقف الخطاب تمهيداً لمفاوضات ديبلوماسية وتحقيق مكاسب، إلا أنها تعكس تغيّراً جذرياً ودراماتيكياً في السياسة الخارجية للدولة العظمى، التي هيمنت توجّهاتها وقيمها السياسية على منظومة الحوكمة العالمية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. فبعد أن طغت مبادئ الليبرالية الديموقراطية على توجهات السياسة الخارجية لأميركا والغرب، وشجّعت مفاهيم التعاون الدولي والتعددية ودعم المنظمات الدولية والسوق الحرة، يشهد العالم اليوم عودة للفكر الإمبريالي من باب “أميركا أولاً”، التي لا تعني تطبيق واشنطن سياسةً انعزالية، بل نظاماً سياسياً عالمياً مبنياً على الواقعية السياسية الجديدة عبر استخدام أدوات القوة الصلبة عوضاً عن الناعمة في تحقيق المصالح الخاصة بالولايات المتحدة، حتى على حساب الحلفاء.
فتَحْتَ عنوان أولوية “الأمن القومي الأميركي”، تستخدم واشنطن اليوم عناصر قوّتها الصلبة – العسكرية والاقتصادية – لتهديد الدول وإخافتها لتغيير سياساتها أو التنازل عن مصالحها أو حتى عن جزء من سيادتها. ولا تنحصر لائحة المستهدفين بهذه الإجراءات بخصوم الولايات المتحدة التقليديين مثل الصين وروسيا وإيران فحسب، بل تشمل أيضاً الحلفاء المقرّبين مثل كندا والاتحاد الأوروبي. وبحسب منظّرين غربيين مثل ستيفن والت وصامويل هنتنغتون، فإن مكانة أميركا كقوة عظمى – الأولى عالمياً – ممتدة من ترابطها مع مجموعة الدول الليبرالية حول العالم. إدارة ترامب تحاول اليوم تكريس نفسها قوةً عظمى إنما بشكل مستقلّ عن حلفائها الليبراليين، وهذا ما قد يُحدث فوضى عالمية غير معروفة النتائج. على سبيل المثال، بعد أن كانت أميركا تتّكل على تحالفها مع الاتحاد الأوروبي لتحقيق مصالحها الأمنية في غرينلاند، تسعى اليوم للسيطرة المباشرة على الجزيرة.
وقد تُحدث المقاربة الجديدة للسياسة الأميركية تفاعلاً متسلسلاً يشجّع قوى كبرى دولياً أو إقليمياً على اللجوء إلى القوة الصلبة لتعزيز أمنها القومي أو حماية مصالحها الاقتصادية والحيوية. وأحدث مثال على ذلك قرار الحكومة البريطانية وقف نقل أرخبيل جزر تشاغوس إلى سيادة موريشيوس وفق ما تمّ الاتفاق عليه قبل بضعة أشهر بحجة خلاف ماليّ وإصرار لندن على ضمانات أمنية إضافية في ما خصّ احتفاظ بريطانيا والولايات المتحدة بقاعدة دييغو غارسيا العسكرية ذات الأهمية الاستراتيجية في الأرخبيل الواقع في المحيط الهندي. ومع اقتناع جزء كبير من المجتمع الدولي بأن النظام العالمي اليوم متعدد الأقطاب، فإن الساحة الدولية قد تكون متّجهة إلى فترة من الصراعات الحدودية والحروب التجارية والتسابق للسيطرة على معابر تجارية استراتيجية ومنع الخصوم من استخدامها. هذه الصراعات قد تشعل حروباً عدّة وتضع العلاقات بين الحلفاء أمام امتحانات صعبة. زمن التحالفات الاستراتيجية ولّى، والعالم سيشهد شراكات اقتصادية بين القوى الكبرى والمتوسّطة لمصالح محددة.
وبحكم المتغيرات الكبيرة والمستمرّة التي شهدها الشرق الأوسط منذ 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فإن تأثير التحوّل في السياسة الأميركية سيكون حاضراً بقوة. فالتمدّد الإسرائيلي الأخير في جبل الشيخ وبعض مناطق الجولان السورية، وفي عدد من التلال الاستراتيجية على الشريط الحدودي مع لبنان، قد يتحوّل إلى سيطرة طويلة، كما أن الوجود العسكري التركي في سوريا قد يأخذ طابعاً شرعياً ضمن اتفاقات متوقعة مع السلطة الجديدة في دمشق. كذلك الوضع سيكون في ساحات الصراع المتبقّية من الحرب الأخيرة، وتحديداً في اليمن والعراق وإيران، حيث قد تشهد استخداماً أكبر للقوة الصلبة من الجانب الأميركي، مع إمكان فقدان هذه الدول بعض أراضيها أو السيادة الكاملة عليها. طبعاً، سيعطي الرئيس ترامب فرصة للحلول الديبلوماسية إن نجحت خطاباته العالية النبرة وتهديداته والعقوبات الاقتصادية في تحقيق أهدافها. إنما في نهاية المطاف، هناك مصالح تريد واشنطن تحقيقها، ويمكن أن تلجأ في ذلك إلى قوتها العسكرية أو إلى جيوش حلفائها، ومنهم إسرائيل.
تراقب الدول العربية بشكل عام، والمؤثرة منها بشكل خاص، قرارات ترامب الأخيرة. وهي -بلا شكّ- ستحاول تجنّب التصادم، وأخذ خطوات لاستباق الأمور. وتملك معظم هذه الدول، الخليجية تحديداً، بالإضافة إلى مصر والأردن والعراق، علاقات اقتصادية وأمنية وثيقة مع الولايات المتحدة. لكنها في الوقت عينه تملك علاقات ومصالح اقتصادية مع الصين وروسيا أيضاً. وتحاول بكين تعزيز دورها السياسي في الشرق الأوسط، وكانت أهمّ إنجازاتها إعادة العلاقات الديبلوماسية بين طهران والرياض وتحسينها. واعتمدت هذه الدول سياسات خارجية مرنة طوال السنوات الماضية، مكّنتها من العمل بنجاح ضمن منطقة رمادية بين واشنطن وبكين. لكن سياسات ترامب في دورته الثانية قد تقلّص مساحة المنطقة الرمادية، ممّا سيصعّب على دول المنطقة عمليّة الموازنة بين العملاقين.
توسيع الاتفاقيات الإبراهيمية لتضمّ دولاً عربية أخرى هو من الأهداف المعلنة للرئيس ترامب. تطبيع دول أخرى للعلاقات مع إسرائيل سيحقّق مصالح اقتصادية وأمنية كبيرة لواشنطن، وتحديداً في تقليص دور الصين في الخليج وشرق البحر المتوسط. كذلك ستؤثر هذه السياسة كثيراً على النظام الإيراني، الذي عليه أن يأخذ قرارات مصيرية في ما يخصّ برنامجه النووي واستمرار سياسة دعم ميليشيات في دول محيطة لتعزيز نفوذه. ونافذة طهران للحلّ الديبلوماسي تضيق مع اقتراب مرور عشر سنوات على الاتفاق النووي في شهر أيار/ مايو المقبل، التي إن حلّت من دون أيّ إجراءات عقابية من الدول الموقّعة فسيتحرّر برنامجها من أيّ قيود. فإما اتفاق جديد قبل أيار يلغي حق طهران بالتخصيب أو توجيه ضربة عسكرية قد تنهي البرنامج والنظام.
لبنان هو من الدول الإقليمية التي تواجه خياراً مصيرياً نتيجة مقاربة واشنطن السياسية الجديدة. فاستمرار امتلاك “حزب الله” السلاح وعدم تسليمه للسلطات اللبنانية سيضعان لبنان في مواجهة صعبة مع أميركا قد تكلّفه خسائر اقتصادية إضافية، وحرماناً من المساعدات، وربما خسارة المزيد من أراضيه. فزخم التغيير الإيجابي ما يزال لمصلحة لبنان شرط أن تستغلّه السلطة الجديدة بسرعة.