قريباً، قد يكتشف الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنه ليس بحاجة فقط إلى مسؤولين شديدي الولاء والكفاءة في إدارته، بل الأهم، إلى مسؤولين يتمتعون بمهارة بلاغية استثنائية لإعادة تفسير أقواله على غير معناها، بخاصة عندما يكون هذا المعنى مثيراً للجدل والردود العاصفة. ومع ترامب، نادراً ما تكون التصريحات غير جدلية.
لا يتطلب نوابغ “نوبل”
بعدما أثارت تصريحاته عن نقل الفلسطينيين إلى خارج قطاع غزة انتقادات قاسية، سارع مسؤولون في الإدارة إلى محاولة لململة تداعيات الفوضى. لا يعني ذلك أنهم سيوفّقون بالضرورة، وذلك إما لأن توضيحاتهم متعثرة أو لأن ترامب لن ينتظر كثيراً لدحضها. قال وزير الخارجية ماركو روبيو إن ترامب كان يقصد نقلاً “موقتاً” للفلسطينيين لإعادة بناء القطاع. لم يكتفِ روبيو بذلك، بل وصف قرار ترامب بأنه “سخي” لأنه يعبر عن رغبة الولايات المتحدة في أن تكون لاعباً “مسؤولاً في إعادة الإعمار”. ونفت الناطقة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت أن تكون واشنطن في طور التخطيط لوضع “جنود على الأرض” في غزة، لكنها في الوقت نفسه، رفضت استبعاد نشر قوات أميركية هناك.
أكد ترامب الخميس على “تروث سوشل” أن “إسرائيل ستسلم قطاع غزة للولايات المتحدة عند انتهاء القتال. سيكون الفلسطينيون، أشخاص مثل (رئيس تكتل المشرعين الديموقراطيين في مجلس الشيوخ) تشاك شومر، قد أعيد توطينهم بالفعل في مجتمعات أكثر أماناً وجمالاً، مع منازل جديدة وحديثة في المنطقة، سيحصلون في الواقع على فرصة كي يكونوا سعداء، آمنين، وأحراراً”.
بصرف النظر عن خلط المزاح بملف بالغ الحساسية في المنشور الأخير، وكما كتبت مجلة “إيكونوميست” البريطانية، “لا يتطلب الأمر حائزاً على جائزة نوبل لرصد المشاكل في خطة ترامب”، من بينها الدعوة إلى الغزو والتطهير العرقي.
بين “المناورات” و”الحماسة الإمبريالية”
تراوحت التعليقات على كلام ترامب لدى استقباله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بين ما نفى إمكانية أن يكون قابلاً للتطبيق وبين ما أكد وجود نمط عام لدى أفكار الرئيس الأميركي. مراسل “نيويورك تايمز” في القدس باتريك كينغسلي لفت إلى أن “غرابة” الطرح أشارت للبعض إلى أنه لم يكن قابلاً لأن يتم أخذه بحرفيّته، وأنه كان مجرد تكتيك هادف إلى انتزاع تنازلات من “حماس” والقادة العرب.
يمكن أن يشبه ذلك ما حصل مع تهديد ترامب لجارتيه كندا والمكسيك بتعريفات جمركية قبل أن يعلقها لفترة شهر مقابل وعود منهما بتعزيز الحدود. لكن على المرء أن يكون متفائلاً لتوقع أن يطبق ترامب ما يحصل في أميركا الشمالية على غزة. فالحلف بين ترامب ونتنياهو – بالرغم من المطبات السابقة المرتبطة بنتائج انتخابات 2020 – يبدو أنه لا يزال صلباً بما يكفي كي تتقاطع رؤاهما عند أكثر من نقطة.
وهذا يعني جدية احتمال تبني الرئيس الأميركي مطالب الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل، حتى ولو كانت تصريحاته تركز إلى حد كبير على طابع الإنماء والرخاء.
بالمقابل، يعتقد آخرون أن كلام ترامب الأخير عن غزة يتلاءم مع تعليقاته الإقليمية الأخرى. خبير شؤون الشرق الأوسط بيتر بينارت كتب على مدونته: “كي تفهموا غزة، عليكم أن تفهموا غرينلاند”. وأضاف كاتباً عن ترامب: “إنه مؤمن شغوف بمشروع أميركا الإمبريالي” حيث أنه لا يريد أن تكون بلاده في موقع من يملي على الدول الأخرى ما يجب فعله وحسب، بل يريد أيضاً أن “تسيطر أميركا بشكل مادي على الأراضي والموارد”.
لكن ماذا لو كان تعليقه مجرد كلام اعتباطي؟
لا يغير هذا كثيراً في المعادلة الجديدة. بالحد الأدنى، قد يؤجل هذا الاحتمال انفجار المشكلة الكبيرة التي ولّدها ترامب. بحسب “إيكونوميست”، تتمثل خطورة تصريحات ترامب في أنها “ستجعل المتشددين أكثر تجرؤاً وتردع حلفاء أميركا عن دعم جهوده في الترويج للاستقرار”.
كان الخوف من ترحيب اليمين القومي الإسرائيلي من كلام ترامب جلياً. رأى راؤول ووتليف، كاتب في “نيوزويك” ومراسل سابق لـ “تايمز أوف إسرائيل”، أن فكرة ترحيل الفلسطينيين كانت سابقاً هامشية في إسرائيل وأن حتى رافضي الدولة الفلسطينية اعتبروا وجود الفلسطينيين على الأقل، أمراً واقعاً. مهما كان المقصد من كلام ترامب، أكان بلاغياً للفت الأنظار أو مناورة تفاوضية، لقد حل الضرر بحسب ووتليف. فقد ساهم الرئيس إلى حد كبير، بصفته زعيم العالم الحر، في نقل الفكرة من الهامش إلى التيار السائد في إسرائيل.
بالفعل، في منشور على “أكس”، فسر النائب الإسرائيلي المشجع للاستيطان إيتمار بن غفير كلام ترامب بكونه إشارة إلى أن “الحل الوحيد لغزة هو تشجيع هجرة الغزيين”. وفي منشور لاحق، كتب بن غفير: “دونالد، يبدو هذا كأنه بداية لصداقة جميلة”.
ليس مدلول ذلك أن اليمين الإسرائيلي سيكون ممتناً لترامب أو أنه سيبادله الصداقة إلى حد بعيد. كما يقول الباحث في مجلس العلاقات الخارجية ستيفن كوك، يريد اليمين القومي الإسرائيلي الاستيطان في غزة، لا السماح للمقاولين الأميركيين الاستثمار فيها.