أنجز الكاتب ورسام الكاريكاتير خوسيه بابلو غارثيا (إسبانيا، 1982) واحدًا من تحدياته المؤجلة: تحويل سيرة الجنرال فرانكو التي كتبها بول بريستون تحت عنوان “سيرة الديكتاتور”، إلى كتاب رسومات مصورة، مستغلًا قدرة الفن الحديث نسبيًا على مخاطبة أجيال جديدة من الأطفال والمراهقين، وجاذبًا بذلك قطاعًا جديدًا من القراء.
قرأ بابلو غارثيا أكثر من عشرين كتابًا تناول سيرة الديكتاتور الإسباني، صدرت بين 1950 و1970، لكنه اختار في النهاية الاعتماد على كتاب المؤرخ البريطاني، لأنه في رأيه “أفضل سيرة كُتِبت عن فرانكو”، بحسب تصريح أدلى به لجريدة الكولتورال الإسبانية، متفقًا في ذلك مع الصحافي الشهير لويس ماريا أنسون، الذي قدّم للنسخة الإسبانية المنقحة والمزيدة في عام 2022.
وفي عمله الجديد، يتوسل غارثيا رسومات دقيقة ونقية ومؤثرة، ملأى بالمعلومات المكثفة، ليحكي لنا من خلالها كل تفاصيل حياة الجنرال الذي حكم إسبانيا بالحديد والنار خلال ما يقرب من أربعين سنة. يلجأ كذلك، في بناء عمله، إلى رسم لحظات حميمية، ومشاهد حربية، واجتماعات سياسية، وإرفاق وثائق وقصاصات جرائد وحوليات وخرائط شارحة، ما يسهّل قراءة وفهم كل الأحداث الهامة في حياة الجنرال الذي سمّى نفسه “زعيم إسبانيا بفضل الرب”.
وفي تصريح له لجريدة الكولتورال، يقول الرسّام: “التحدي كان كبيرًا، بدايةً من حجم الكتاب، ونهاية بالشخصية نفسها. لقد كان فرانكو مادة خصبة للرسم، سواء في صورة ساخرة، أو مثالية، بحسب إلى أي فريق تنتمي، ما غاب كثيرًا هو العامل التوثيقي في كلتا الحالتين”. هذا التوثيق جعل الرسام يقرأ ما يزيد عن عشرين كتابًا استطاع أن يستخرج منها توثيقًا لرسمه.
موضوع متكرر… رؤية جديدة
ألهم فرانكو في حياته وطريقة حكمه عددًا من رسامي الكاريكاتير الإسبان، وخلال فترة طويلة كان بطلًا في هذه الرسومات، إلا أنها جميعها وقعت في كليشيه الرجل الأحمق الذي وصل إلى كرسي العرش، أو الرجل البطل، لذلك كانت الرؤية مبتسرة. أما في كتاب غارثيا الجديد فيعامل الجنرال كشخص معقّد وفاتن ومتناقض، شديد الذكاء وكثير التلاعب بمهارة. لقد انشغل فرانكو منذ شبابه بآراء الآخرين عنه، وأشاع صورة مثالية حول ذاته، اتبعها مؤيدوه لسنوات طويلة، ولا تزال مستمرة. وفي زمنه كبطل عسكري في حرب المغرب، نشر فرانكو بطولاته في كتاب بعنوان “يوميات العلم” (1922)، ووزع عددًا كبيرًا من النسخ كهدايا.
“يتوسل غارثيا رسومات دقيقة ونقية ومؤثرة، ملأى بالمعلومات المكثفة، ليحكي لنا من خلالها كل تفاصيل حياة الجنرال الذي حكم إسبانيا بالحديد والنار خلال ما يقرب من أربعين سنة”
الجديد هنا كذلك هو كتاب مصور لا يكتفي برسومات، وإنما يتكئ على السيرة والوثائق، ويسرد التاريخ، وهو يختلف عن كتاب مصور سابق بعنوان “جندي لا يُهزَم”، صدر عام 1969 احتفالًا بالعام الثلاثين للانتصار في الحرب الأهلية، وبالطبع كان كتابًا احتفائيًا يمجّد “بطولات الديكتاتور”.
كراهية الأب
يتطرق العمل المصور إلى طفولة فرانكو، الذي وُلد في عام 1892 في قرية فيرول بإقليم لاكورونيا، وكانت حينذاك قاعدة بحرية لا يتجاوز عدد سكانها العشرين ألف نسمة. عاشت عائلته هناك منذ بدايات القرن الثامن عشر، وحافظت على ارتباطها بالعمل مع القاعدة البحرية. في الفصل الأول “الطفل الحزين: عود الكبريت”، نرى كيف تكونت ترومات الطفولة في حياته، وحددت هواجسه الأخلاقية والسياسية، المبنية بالأساس على كرهه العميق لليبراليين والماسونيين، أي كل ما يمثله أبوه، نيكولاس فرانكو، وكان عسكريًا في البحرية أدى مهامًا في كوبا والفليبين، وهناك ذاع صيته كـ “متحرر وزير نساء ومقامر”. وسياسيًا، كان ليبراليًا، وضد الكهنوت، ومتعاطفًا مع الماسونيين، أما في البيت فكان أبًا متسلطًا وعنيفًا.
وعلى عكس الطفل فرانكو الانطوائي، كان أخواه نيكولاس ورامون أكثر اجتماعية، وعلاقتهما بالأب أفضل كثيرًا، وبالتالي كانا الابنين المفضلين. نقرأ في الكتاب: “كان عاجزًا عن نيل قبول أبيه، فبحث عن التحرر من الألم بإنكار الحاجة إلى الحنان والعاطفة”، على عكس علاقته بأمه، بيلار، وكانت سيدة محافظة وكاثوليكية ورعة ومحسنة ونقية. عانت في صمت من ذل زوجها وخياناته لها. لقد لجأ إليها فرانكو وحاكى طبعها: “وحين رأى كيف بوسع طيبة أمه الباطنية أن تستحيل إلى شعار ضد الكوارث، محا فرانكو ضعفه العاطفي، ليطور في داخله فراغًا باردًا داخليًا”.
بعد سنوات، رفض أبوه حضور زفافه على زوجته كارمن بولو، وكرد على ذلك، رفض فرانكو أن يحضر جنازة أبيه في عام 1941. لا يكتفي خوسيه غارثيا بالاتكاء على كتاب الكاتب البريطاني لمعرفة تفاصيل طفولة فرانكو، بل يلجأ إلى أم جدته، وكانت جارة للديكتاتور في قريته. يقول: “لذلك عرفت أنه كان طفلًا حزينًا، وأن أبويه كانا منفصلين”. ثمة تروما أخرى تركت فيه بصمتها. كان طول فرانكو 164 سم، وكان بصوت خشن، وكان خجولًا ومنسحبًا. في المدرسة كانوا يتنمرون عليه ويسمونه “عود الكبريت” نظرًا لضعفه ونحافته. ولاحقًا، في أكاديمية المشاة بطليطلة (والتحق بها بعد فشله في دخول الهيئة العامة للبحرية، على عكس أخيه نيكولاس)، كانوا ينادونه “فرانكيتو” (فرانكو الصغير)، وكان بلا تجربة، لأنه رفض “العلاقات الجنسية والكحول في أكثر الأماكن انحرافًا في طليطلة”.
بطل في المغرب
كل ذلك دفعه للجوء إلى النظام العسكري، وخلق لنفسه هوية جديدة تتميز بالصرامة، وأداء الواجب، وتقديس الشجاعة والبطولة. هذه الصفات الجديدة سيستخدمها مع تطوعه في حرب المغرب. هناك برهن على بروده وسكينته أمام المخاطر ــ وظنت قوات المسلمين التابعة للجيش الإسباني أنه رجل بركة، يتمتع بنوع من الحماية الإلهية ــ ثم ترقى سريعًا لاستحقاقه العسكري.
وفي عام 1917، وكان في الثالثة والعشرين، صار أصغر رائد في إسبانيا، وفي 1926، في الثالثة والثلاثين، صار الجنرال الأصغر في أوروبا. أثناء ذلك، يسرد لنا الكوميكس دوره كرئيس للعلم الأول للكتيبة المنشأة حديثًا في المغرب. وهناك كوّن قوات مؤلفة من المهمشين والمطرودين، وأثبت كفاءة في الاستراتيجية واللوجيستية، وحقق انتصارات هامة ساهمت في استرداد السيطرة على الريف بعد كارثة 1921.
“نقرأ في الكتاب: “كان عاجزًا عن نيل قبول أبيه، فبحث عن التحرر من الألم بإنكار الحاجة إلى الحنان والعاطفة””
لكنه أقام كذلك انتقامات عنيفة. في كانون الثاني/ يناير من العام التالي انطلق برفقة 12 متطوعًا لتحرير سرية إسبانية محاصرة في دار دريوس، وعاد بـ 12 رأسًا من المتمردين المغاربة كعلامة على الانتصار. ثم عاد يعد معاركه إلى شبه الجزيرة وقد غدا بطلًا عسكريًا، ما غذى تطلعاته السياسية، وصار أحد أقرب الرجال إلى الملك ألفونسو الثامن، وعينه مديرًا أول للأكاديمية العسكرية العامة في ثاراجوثا في عام 1928.
الصعود إلى السلطة
ساهمت انتخابات المحليات في عام 1931، حيث حصل الاشتراكيون والجمهوريون على الأغلبية في المدن الرئيسية، في سقوط الملكية، وإعلان الجمهورية. حينها رحل ألفونسو الثامن في منفى، وامتثل فرانكو على مضض للنظام الجديد. ثم بعد قليل، صدر أمر بإغلاق أكاديمية ثاراجوثا التي كان يقدّرها، فرأى أن ذلك إهانة له. ومن دون هدف محدد، استسلم لقراءاته ضد الشيوعية وضد الماسونية. وفي شباط/ فبراير 1932 قرر مانويل أثانيا، رئيس الحكومة الإسبانية حينها، ورئيس الجمهورية الثانية في ما بعد، أن يضعه على رئاسة لواء المشاة في غاليثيا. وهناك حاول الفريق خوسيه سانخورخو إقناعه بالانضمام إلى خطة تهدف إلى الانقلاب، لكنه انسحب بحيطة في اللحظة المناسبة، وفشل الانقلاب. مع ذلك، ظل فرانكو يبدي اهتمامًا، من مسافة ما، بالتآمر ضد الجمهورية الثانية التي عينته.
وفي عام 1933، نقله مانويل أثانيا من مكانه، وأرسله لقيادة الفرقة العسكرية بجزر باليارس. وبحسب ما كتبه بريستون، كان ذلك مكافأة له لعدم خيانة الجمهورية، لكنه لم يتلق أمر النقل بهذه الطريقة. وفي انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر 1933، فاز حزب اليمين، وتشكلت حكومة ائتلافية، وعاد السياسيون لتدليل فرانكو، ورقوه كمستشار شخصي لوزير الحرب، وكان الأخير قليل الخبرة، فأرسل فرانكو لإخماد ثورة أستورياس عام 1934، فاستخدم العنف ضد الثوار والمدنيين. ثم توجه إلى جزر الكناري، حيث استقبله السكان بصيحات “القاتل”.
يحلل بريستون كذلك كيف قام فرانكو بمناورة حذرة ليحظى بمكانة في السلطة، فيما يتجنب التورط صراحة في خطط تسقط الجمهورية. أما الجنرال مولا والانقلابيون الآخرون فلم يرغبوا في التمرد من دون مشاركة فرانكو، لأنه كان يتمتع بمكانة بين الضباط كما كان الجيش الإسباني في المغرب يدين له بالولاء. في النهاية أدى اغتيال السياسي كالبو سوتيلو في تموز/ يوليو 36 على يد حراس جمهوريين (انتقامًا لمقتل رفيق لهم على يد مسلحين فلانخيين) إلى اقتناع فرانكو بالانضمام لانقلاب عسكري يقوده هو، وأدى إلى الحرب الأهلية.
تحكي السيرة كيف تمكن فرانكو من استغلال الانقسامات الداخلية بين القوات المتمردة ليصبح القائد، ما يثبت قدرته على الوصول لقمة السلطة. ثم جاء إعدام بريمو دي ريفيرا، قائد الفلانخيين، بالرمي بالرصاص من جانب الجمهورية، ليثبت أقدام فرانكو في الزعامة.
يحكي الرسام كذلك عن زوجة فرانكو، كارمن بولو، ويشير إلى أدوارها المهمة. في الكوميك، ثمة مشهد لها مع فرانكو في السرير تعاتبه لتخليه غير الأخلاقي عن أصدقائه والمتعاونين معه.
يشاع أيضًا أنها هي من زرعت فيه الشك في صهره الفلانخي رامون سونيير ــ زوج أختها ــ وكانت ذراعه اليمنى في ترقيه للسلطة. وكان تأثيرها عليه جليًا في تعيين أرياس نابارو كوزير للدولة، إذ كانت تستلطفه منذ كان عمدة لمدريد.
كل وجوه النظام
الفصول التالية في الكوميكس تحكي بالتفصيل كل مراحل النظام الفرانكوي، مسلطًا الضوء على السلطوية، وقمع المدنيين، وفرض الرقابة والبروباغندا والعنف الممنهج ضد المعارضين، وكيف استند على الكنيسة الكاثوليكية والعسكريين والقطاعات المحافظة من المجتمع.
وعلى المستوى الدولي، اتبع فرانكو سياسة براغماتية. خلال الحرب العالمية الثانية، جنّب إسبانيا التورط في الحرب رغم أنه كان شديد الإعجاب بهتلر وموسوليني. وبعد سقوط دول المحور، سقطت إسبانيا في النبذ الدولي، لكن مع بداية الحرب الباردة استطاعت كسب مساندة الولايات المتحدة بموقفها المعادي للشيوعية.
يرسم الكتاب فرانكو كرجل حذر، وكذلك كشكاك ومهووس بامتلاك السلطة. كان زعيمًا نشر صورة التواضع، رغم أنه في الواقع كان يعيش في بذخ، وادخر ثروة طائلة بفضل فساده المنتشر في نظامه. ويدحض الكتاب أي قول حول زهده أو ترفعه عن السلطة، ليرسمه كديكتاتور حارب حتى آخر لحظة ليبقى على كرسي العرش.
شارك هذا المقال