–
بعد فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأميركية للمرّة الثانية، بعث الرئيس الصيني، شي جين بينغ، رسالة تهنئة للرئيس المنتخب، دعاه فيها إلى إدارة مناسبة للخلافات بين البلدين وللتعايش السلمي.
لطالما دعت الصين الولايات المتحدة إلى ملاقاتها في منتصف الطريق والتعاون، بدلاً من المواجهة، وتقر بكين بأن العلاقات الأميركية الصينية من أهم العلاقات في العالم، ولا تتعلق بالمصالح المباشرة للشعبين، الصيني والأميركي فحسب، بل أيضاً بمستقبل البشرية جمعاء ومصيرها.
وفي حملاته الانتخابية، توعد ترامب بفرض تعرفات جمركية إضافية على السلع الصينية، تصل نسبتها إلى أكثر من 60%، إلا أنه بعد فوزه أبدى ليونة كبيرة تجاه الصين، حيث دعا الرئيس الصيني إلى حضور حفل تنصيبه، وفي بادرة حسن نية من بكين، ورغبتها في تعزيز العلاقات مع واشنطن، وإرسال رسالة بأنها ليست من يعرقل تنمية هذه العلاقات، أوفدت نائب الرئيس الصيني، هان تشنغ، لحضور الحفل، وهو حضور رفيع المستوى، إذ لم يسبق للصين أن قامت بإجراءٍ كهذا، بل كان السفير الصيني لدى واشنطن هو من يحضر حفل تنصيب الرئيس الأميركي المنتخب.
نظراً إلى التناقض في أفكار البلدين وتوجهاتهما وتطلعاتهما، ستبقى العلاقات الأميركية الصينية في دوامة كبيرة
ومن ناحية أخرى، كان لدى ترامب تردّد في فرض الرسوم الجمركية، فهو قد عبّر صراحة عن أنه يفضل ألا يضطرّ إلى فرضها، كما أجرى مباحثات مع الرئيس الصيني تناولت مواضيع عديدة، منها مخدّر الفنتانيل، تيك توك، التعرفات الجمركية. ومن أجل أن تستجيب الصين للمطالب الأميركية في أثناء المحادثات بين البلدين، قام ترامب، بحجّة أن الصين لم تتخذ الإجراءات اللازمة لمنع تدفق الفنتانيل إلى الولايات المتحدة، بفرض رسوم جمركية بنسبة 10% على السلع الصينية، بينما تصرّ الصين على أن أزمة المخدرات مشكلة أميركية، ودافعت عن جهودها للسيطرة على صادرات المواد الكيميائية الأولية للفنتانيل.
وعلى ما يبدو، أراد الرئيس ترامب من وراء فرض هذه التعرفات، التي هي أقل من 25% التي فرضها على المكسيك وكندا، جس نبض الصين وردة فعلها على فرض هذه الرسوم، والضغط عليها للانصياع للمطالب والشروط الأميركية، سيما في ما يتعلق بتطبيق تيك توك الذي يبدي الرئيس ترامب اهتماماً كبيراً بالاستحواذ عليه، وزيادة واردات الصين من الولايات المتحدة، تحت طائلة فرض تعريفات جمركية إضافية.
اعتقد ترامب أن تهديد الصين بفرض رسوم جمركية سيجبرها على الانصياع والرضوخ له، كما حصل مع كندا والمكسيك اللتين أجرتا مشاورات مع ترامب، نتج منها تجميد الرسوم الجمركية شهراً، بينما دخلت الرسوم الجمركية الإضافية على الصين حيز التنفيذ. وكان الرد الصيني على فرض الرسوم الجمركية تكتيكياً ومحدوداً، إذ حاولت بكين قبل تطبيق التعرفات الجمركية، وعلى أمل أن يتراجع ترامب عن قراره، القول إنها ستقدم شكوى إلى منظمة التجارة العالمية، ولن تعلن صراحة أنها ستفرض رسوماً جمركية على السلع الأميركية. وعندما لم يجمد ترامب قراره بشأن الصين، ارتأت بكين أن تقوم بإجراءات مضادة محدودة لترسل رسالة إلى ترامب بأنها تملك أوراقاً قوية لمواجهته، وأنها لا ترضخ للضغوط، وإنْ كانت تفضل عدم الدخول في حرب تجارية مع الولايات المتحدة، لأنها ترى أنه لن يكون هناك رابح في هذه الحرب، وبالتالي، ستلحق أضراراً بالبلدين، حتى إن الرئيس ترامب أقرّ صراحة بأن التعرفات الجمركية ستلحق ضرراً بالولايات المتحدة.
لا تريد الصين الدخول في حروب تجارية وتكنولوجيا مع الولايات المتحدة، فاقتصادها يعاني من تباطؤ في النمو ولديها مشكلات داخلية
من المحتمل أن الصين لم تتوقع أن يفرض ترامب رسوماً جمركية في الوقت الحالي، بل كانت ترى أنه قد ينتظر الوقت المناسب حتى يتلقى نتائج التحقيقات التي تجريها الوكالات الاتحادية بتقييم أداء الصين بموجب المرحلة الأولى من اتفاق التجارة الذي وقعه البلدان عام 2020، فربما اعتقدت الصين أن ترامب يؤخّر عملية فرض الرسوم الجمركية، حتى يتسنى له عقد الصفقات واستكمال المفاوضات التجارية، أو أن يزور الصين، خصوصاً أنه أبدى رغبته في إجراء هذه الزيارة.
الليونة التي أظهرها ترامب تجاه الصين، والتي تعود بالأساس لإفساح المجال أمام التفاوض وعقد الصفقات، قابلتها تحرّكات لمواجهة نفوذ بكين في أماكن مختلفة، سيما في ما يتعلق بقناة بنما، إذ اضطرّت بنما تحت الضغط الأميركي إلى رفض تجديد اتفاقية الحزام والطريق مع الصين.
من المستبعد أن يسمح ترامب الذي يعمل من أجل “إعادة أميركا عظيمة”، وحمل شعار “أميركا أولاً” للصين بتوسيع نفوذها في مختلف أرجاء المعمورة، وسيمارس الضغط على مختلف الدول الصديقة وغير الصديقة لتحقيق مصالحه. وإذا كان ترامب قد ركز في ولايته الأولى على الحرب التجارية، فإنه في ولايته الثانية من المحتمل أن يركّز أيضاً على التكنولوجيا وأشباه الموصلات.
لا تريد الصين الدخول في حروب تجارية وتكنولوجيا مع الولايات المتحدة، فاقتصادها يعاني من تباطؤ في النمو ولديها مشكلات داخلية، والانجرار إلى نزاعات مع واشنطن سيعيق نموها الذي تعمل عليه ويضر باقتصادها، ولكنها قد تضطر حتى وطأة الضغط الأميركي إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة تجاه الولايات المتحدة.
اعتقد ترامب أن تهديد الصين بفرض رسوم جمركية سيجبرها على الانصياع والرضوخ له، كما حصل مع كندا والمكسيك
ما يساعد الصين في تعاملها مع الرئيس ترامب، أن الأخير يصرّح أحياناً بالإجراءات التي سيتخذها ضدها، وهو ما يمكنها من التحضير والاستعداد لهذه الإجراءات. فمثلاً، هدّد ترامب بفرض رسوم جمركية على الصين، ما استدعى أن تتخذ بكين سلسلة من التدابير ليكون تأثير هذه الرسوم باقتصادها ليس كبيراً.
الصراع بين أميركا والصين هو على شكل النظام العالمي، لا يريد أي طرف أن يلغي الآخر نظراً إلى أهميتهما بالنسبة إلى بعضهم، ولكن الولايات المتحدة تريد أن تبقى هي المهيمنة على النظام الدولي، وخصوصاً مع الرئيس ترامب الذي رفع شعار “أميركا أولاً”، بينما تريد الصين أن تحقق النهضة العظيمة للأمة الصينية وتحقيق الحلم الصيني مع الرئيس شي جين بينغ الذي يسعى لأن يكون ماو تسي تونغ آخر.
ونظراً إلى التناقض في أفكار البلدين وتوجهاتهما وتطلعاتهما، ستبقى العلاقات الأميركية الصينية في دوامة كبيرة تهدأ حيناً وتشتعل جيناً آخر.
google news