بدأت الثورات في بلدان أوروبا والمستعمرة الأميركية، أي في البلدان الغنية، قبل البلدان الفقيرة في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، بسبب تضافر مجموعة شروط، منها: الثورة العقلية مع الإصلاح الديني، والثورات في مجالات العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد والاجتماع، وضمن ذلك أتى التمرد على السلطة المطلقة والإقطاع، وترافق ذلك مع ظهور المدن، وتبلور طبقة بورجوازية تجارية وصناعية، وانتشار المطابع والصحف والجامعات، ما يطابق أطروحة حنة أرندت (كتابها: “في الثورة”) وكرين برنتن (كتابه: “تشريح الثورات”) ومفادها أن الثورات تنطلق بدعوى الحرية لا الاقتصاد، إذ إن الطبقة المتوسطة هي المحرك وليس العمال والفلاحون.
طبعاً لم يحصل الأمر في جميع البلدان بطريقة متشابهة، كما لم تصل الثورات كلها إلى النتائج نفسها، تبعاً للتطور السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي في البلد المعني ومحيطه.
بدأت الثورات من ألمانيا من نقطة الإصلاح الديني التي أطلق شرارتها مارتن لوثر، في القرن السادس عشر، لتحجيم سلطة بابا روما، وفصل الدين عن الدولة. وقد احتاجت ألمانيا إلى ثورة ثانية عام 1848 للتخلّص من الحكم الملكي، وإقامة الدولة القومية، وتعزيز الحرية السياسية، لكنها لم تنجح بسبب تدخّل الدول المجاورة، ما مهد لمجيء بسمارك وإقامة الدولة القومية الألمانية. وفي الفترة 1918ـ1933 أقيمت جمهورية “فايمار” بعد ثورة أطاحت الحكم القيصري، لكنها انتهت بكارثة تمثلت بمجيء هتلر والاجتماعيين القوميين (النازيين) إلى السلطة.
في انكلترا، احتسبت الحرب الأهلية (1642 – 1649) ثورة، إذ نجم عنها إعدام الملك شارل الأول والتحوّل نحو الجمهورية، لكن هذا الأمر لم ينجح إذ إن كرومويل الذي يفترض أنه ثار ضد استبداد الملك جعل من نفسه ديكتاتوراً جديداً.
وبالنسبة إلى الثورة الأميركية، ورغم أنها كانت موجهة للاستقلال عن “التاج البريطاني” (وهو ما حصل في 1783) إلا أنها أدت إلى إقامة الولايات المتحدة كدولة ديموقراطية، فيدرالية. لكن الولايات المتحدة بدورها احتاجت إلى حرب أهلية (بين الشمال والجنوب) لإلغاء نظام الرقّ (1860ـ1865)، تكلّفت مقتل 620،000 جندي ومدني، وإلى ثورة أخرى ضد التمييز العنصري (1954 و1968) من أجل الحقوق المدنية والمساواة، التي قادها بشجاعة مارتن لوثر كينغ.
وتعتبر الثورة الفرنسية، وشعاراتها “الحرية والإخاء والمساواة” (1789ـ1799) أيقونة الثورات الأوروبية، كون تأثيراتها عمّت القارة، وقد ابتدأت بإلغاء الملكية المطلقة، وتوحيد السوق الوطنية، ووضعت أسس الديموقراطية السياسية، لكنها شهدت اضطرابات شديدة، إلى حين سيطر نابليون بونابرت الذي توّج نفسه إمبراطوراً في ما بعد. اللافت أن قائد الثورة روبسبير أعدم بالمقصلة التي أعدم فيها الملك، والتي كان أعدم فيها دانتون، أحد قادة الثورة ورفيقه (خلال تسعة أشهر حُكم على 16ألف شخص بالموت). وكان روبسبير، على ثقافته ومواهبه، شديد الاندفاع وعصبياً، حاول اتخاذ ديانة جديدة إسمها عبادة العقل، وأغلق الكنائس، كما أعاد ترتيب الشهور وأسمائها، وظل الأمر كذلك حتى مجيء نابليون سنة 1804.
أما بالنسبة إلى الثورة الروسية فبدأت ممهّداتها في ثورة 1905التي لم تلق النجاح، بسبب قمعها من قبل السلطة القيصرية، وخلافات القوى المشتركة فيها. ولزم لروسيا في ما بعد 12عاماً حتى تقوم بثورتها الاشتراكية (2017) التي تضمنت حرباً أهلية استمرت زهاء خمسة أعوام، ومصرع مليوني مواطن؛ لذا فهي ثورة دموية عنيفة مثلها مثل الثورة الصينية.
هكذا، فإن التجارب التاريخية تعلّم أن الثورات والحروب قاطرة التاريخ، لكنها لا تفترض حتماً انتهاج العنف، فقد تحصل بطريقة سلمية (تجارب الهند والقضاء على التمييز العنصري في الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا)، أو بطريقة أقل عنفاً (بريطانيا وألمانيا مثلاً). ومع أن هذه الثورات هي بمثابة طريق إجباري لتحقيق التطوّر في الفكر والمجتمع والحياة السياسية فإن تجارب كل هذه الثورات تفيد بأن هذا الطريق ليس سهلاً ولا مستقيماً، وأنه ربما يشهد تراجعات وانتكاسات.
بيد أن الفكرة الأساسية المميزة هنا تفيد بأن المجتمعات والدول والأفكار والعلوم، تتطور بطريقة تدريجية وسلمية، لا عن طريق الثورات، أو العنف، فهذه قد تسقط أنظمة فقط، كما حصل، مثلاً، في روسيا والصين، وحتى في فيتنام، إذ عادت تلك الدول إلى طبيعتها، أو انزاحت عن فكرتها الثورية التي انطلقت على أساسها قبل عقود مثلاً. ما يؤيد فكرة كرين برنتن عن أن “الثورات تبدأ معتدلة ثم تتطرف، ثم تعود الأمور لعاديتها مع تغييرات تدريجية”.