لقد كان للحرب الروسية- الأوكرانية، وبعدها حرب غزة، أثر بالغ في الإدراك العالمي للمكانة التي تحتلها قيمة حرية الرأي والتعبير في الولايات المتحدة، وربما أسهمت الحربان بقوة في تفكيك انطباعات سادت عقوداً عن أهمية هذه القيمة في السياسة الأميركية.
في هاتين الحربين تورط قادة ومسؤولون أميركيون، ومعهم كثير من المؤسسات العامة والخاصة، في سياسات وإجراءات انتهكت بشدة تلك القيمة، وهو أمر شمل قرارات بالحجب والمصادرة وتقييد الوصول من جانب، والانحياز والتضليل وانتهاك المعايير المهنية المرعية من جانب آخر.
وكنتيجة نهائية، أضحينا -بعد هاتين الحربين- نعرف أن كثيراً مما اجتهدَت المنظومات الإعلامية الأميركية في إرسائه من قواعد وقيم، انطلاقاً من مبدأ حرية الرأي والتعبير، لم يجد ذرائع كافية للدفاع عن وجوده، عندما اصطدم مع مصالح سياسية واضحة وأساسية؛ مثل: الانحياز ضد الروس، ومساندة إسرائيل.
لذلك، فقد كان مُستغرَباً أن تشن السياسة الأميركية، في عهد الرئيس دونالد ترمب، هجوماً حاداً على الأوروبيين، تحت راية حرية الرأي والتعبير التي عدَّها هذا الرئيس «مُهدَّدة»؛ لأنها تكبح جماح اليمين المُحافظ من وجهة نظره، بينما رأى نائبه جي دي فانس أنها «تتراجع» للسبب نفسه.
ومن المُستغرب أيضاً، أن هذا الانتقاد الأميركي الرسمي الحاد للأوروبيين، حدث في الشهر نفسه الذي انفجرت فيه معركة جديدة بين إدارة الرئيس ترمب من جانب، والإعلام المؤسسي من جانب آخر؛ وهي معركة استهدفت تلك المرة وكالة أنباء «أسوشييتد برس» (أ.ب).
إن «أ.ب» مؤسسة إعلامية عريقة، وقد رفدت العالم بكثير من الأخبار والتحليلات والصور التي أسهمت في إبقاء الجمهور العالمي في الضوء، وزوَّدته بالمعلومات الدقيقة والأفكار الواضحة التي مكَّنته من تحسين فهمه للشؤون الجارية، وتكوين المواقف، واتخاذ القرارات، بدرجة مناسبة من الالتزام والمسؤولية.
وعلى مدى نحو 180 سنة من العمل الدؤوب، ومن خلال الانتشار في معظم بلدان العالم، وتوظيف آلاف الصحافيين والموظفين، أدامت «أ.ب» خدماتها، ونوَّعتها، وطورتها، كما ألهمت القطاع الإعلامي العالمي بكثير من أنماط الأداء الصحافية المعيارية. ولعل تراثها الضخم والمتنوع، ونمط ملكيتها التعاوني، كانا سببين رئيسين في تقليل أخطائها، وتحسين قدرتها على مطابقة قيم الدقة والتوازن والحياد.
وكأي وسيلة إعلام، تعمل ضمن سياق سياسي واجتماعي مُحدد، وتواجه قيوداً وضغوطاً، وتخضع لتأثير بعض المصالح والأهواء أحياناً؛ فربما وقعت تلك الوكالة العريقة في كثير من الأخطاء؛ لكن التسليم بذلك لا ينهض مُسوِّغاً أبداً لكي يشنَّ ترمب هجوماً موجعاً ضدها، واصفاً إياها بأنها «منظمة يسارية راديكالية»، كما فعل في الأسبوع الماضي.
لم يفعل ترمب ذلك فقط؛ لكنه أوعز إلى إدارته أيضاً، في وقت سابق من الشهر الحالي، بمنع صحافيي الوكالة من دخول «المكتب البيضاوي» وطائرته الرئاسية، حتى إشعار آخر، بداعي أن الوكالة ترفض تسمية «خليج المكسيك»: «خليج أميركا»، وفق المرسوم الذي أصدره الرئيس في شهر يناير (كانون الثاني)، غداة وصوله إلى سدة الرئاسة.
ويعني ذلك أن الرئيس يستخدم سلطاته لحظر وصول إحدى أهم وسائل الإعلام في بلاده وفي العالم إلى الأماكن الحيوية التي تُمكِّنها من أداء مهمتها، وكان ذلك بداعي أنها «راديكالية ويسارية»، لأنها لم تُطوِّع معاييرها التحريرية لمقابلة قراراته السياسية المُتغيرة والحادة والمثيرة للجدل.
تُعد قصة الصدام الرئاسي مع «أ.ب» إحدى حلقات مسلسل الصدامات الحادة مع كثير من وسائل الإعلام المؤسسي الأميركية التي باتت هدفاً مُستحباً للهجوم والنقد من ترمب، منذ ترشحه في الانتخابات الرئاسية عام 2016.
ومع ذلك، فإن ذلك الصدام الأخير يتسم بقدر أكبر من الخطورة؛ لأنه يكشف عاملَين مُهمَّين: أولهما تكريس النزعة الهجومية والإقصائية الحادة التي تؤطر طريقة ترمب في التعامل مع وسائل الإعلام من جانب. وثانيهما عدم اعتداده -أو عدم تقديره- للقواعد المؤسسية والمعايير المهنية التي تحكم أداء وسائل الإعلام الاحترافية من جانب آخر.
وقد اتضح ذلك جلياً في توضيح «أ.ب» موقفها إزاء استخدام تسمية ترمب «خليج المكسيك»: «خليج أميركا»؛ إذ أوضحت أن ذلك ربما يكون مفهوماً في سياق السياسة الأميركية، أو مقبولاً حتى؛ لكنه لا يحظى بموافقة المكسيك نفسها، وكثير من دول العالم أيضاً.
لا تخدم «أ.ب» السياسة والإعلام الأميركيين فقط؛ لكنها وكالة أنباء عالمية، تبث أنباءها في معظم بلدان العالم، وهو أمر يستوجب أن تتنصَّل من تبنِّي التسميات والمواقف التي لا تحظى باتفاق تام بين مستخدميها العالميين، وهو أمر لا يبدو أن ترمب يدركه، أو يقيم له وزناً.