“بقدر ما نتعمق بطبقات النفس، تفقد فردانيتها الخاصة، تنسحب أكثر فأكثر في الظلمة، تنزل إلى الأسفل والأسفل فتغدو جماعية، إلى أن تغدو شمولية، وتجد في مادة الجسد مجرد فحم، لذلك فإن أسفل النفس عالم”- كارل يونغ.
هو عالم غير ملموس سوى بالتجارب الصادمة، بدءًا من الأحلام ورموزها وصولًا إلى الموت، السر الأعمق والأكثر ثراء من الأساطير والمعجزات. وإذا كان كارل غوستاف يونغ أحد علماء النفس الأكثر شهرة، قد ربط لنا الحلم بالكهوف الأولى وبطبقات النفس البشرية الغائرة في دهاليز مكررة عبر الزمن، فكيف نعيد للوعي ماضيه، وإن على شكل نار أو مياه راكدة، أو إعطاء معنى للحياة الكامنة خلف الأشياء؟ وكيف للعابر العاديّ أن يفسر حلمه وعقله المحدود يكاد يكون قاصرًا عن المعاني الماورائية التي تسمى بعلم النفس وتقنياته التحويلية؟
اتفق العالمان كارل غوستاف يونغ وسيغموند فرويد على وجود عالم اللاوعي، لكن بالنسبة لفرويد فإن اللاوعي يتصل بمصطلح “ليبيدو” والرغبات المحرمة والمكبوتة. هو الذي ربط معظم الأمراض النفسية والاضطرابات السلوكية بموضوع الجنس، حتى عند الطفل. كسر فرويد التابوهات في المجتمع فاتحًا الأبواب للتفسيرات الجريئة، ولكنه عجز عن علاج الهستيريا، المرض الذي خذل أفكاره.
ركز فرويد على الأحلام كطريق لتحقيق الرغبات الضالة والمكبوتة، معتبرًا التوازن بين القوى النفسية المتصارعة في اللاوعي هو طريق الخلاص، بعد أن يتخلى الإنسان عن القيود التي فرضها المجتمع، وذلك من خلال الوسائل الدفاعية للنفس وهي الإزاحة، القمع والإنكار، والتي تحقق نوعًا من التوازن الاجتماعي والنفسي. وإذا كان كارل ماركس اعتبر أن الأديان هي أفيون الشعوب، فقد راح فرويد إلى أبعد من ذلك ليعتبرها محض أوهام مركبة تخلصنا من الخوف والتوتر.
ربطت كل من فرويد ويونغ علاقة الأستاذ بتلميذه ليصبحا مقربين ويتبادلان الرسائل ذات الطابع العلميّ والعاطفي، ولكن فكرة قتل الأب التي اخترعها سيغموند طاولت علاقته بتلميذه النجيب، الذي رغم تأثره به سمح لنفسه ببناء عالم نفسيّ مغاير لتفاسير معلمه، وخاصة لناحية فهم العقل البشري ونظرية الأحلام وارتباطها بعالم اللاشعور، ممّا أدى إلى انفصالهما. فما الذي حذا بيونغ لشق طريقه الخاصة، وهل كان الاختلاف بين مؤسس تقنية التحليل النفسي ومصمم عالم اللاشعور وصولًا لتفسير سيكولوجيا البشر علامة فارقة في تاريخ الطب النفسيّ؟
والسؤال الواعي الذي قد يراودنا عن العالمين النخبويين، من منهما استند أكثر على الوهم، وهل ما راكمه فرويد من رموز جنسية محضة أصلحه يونغ باعتبار العقل والنفس ينضجان من خلال تجارب روحية ومعقدة، وربط كل الخراب النفسي بالوعي واللاوعي الجمعيّ والدين؟ فما الإرث الذي تركه لنا يونغ؟ وكيف لأفكاره المتشابكة أن تصنع نظريات غير قابلة للتطبيق سوى من خلال تفسير الأساطير والرموز الحلمية والفناء في المجموعة؟
أحيانًا يرتبط التاريخ بشخصيات غير نمطية ولها دور بارز في بناء العالم، فقد تأثر معظم الأدباء والفنانين بعلم النفس الحديث ورواده، هذا البناء الاستثنائي لأقبية النفس المعتمة حرّك الغرائز المنسية ومتاهات النفس الراكدة وكل ما حرّمته الأديان وبقي مستيقظًا في عراء الداخل. وقد وجدنا نضجًا في مختلف مجالات الفن الحديث، وكان سببه المباشر تشريع المشاعر الداخلية المكبوتة وتفجيرها دون قيد أو شرط.
“ألا يمكن استخدام الأحلام من أجل حل المشكلات؟”، هذا ما فعله أندريه بروتون ودالي وغيرهما من السرياليين المتأثرين في مبادئ علم النفس الحديث. واعتبر الفنان بول كلي أن “الشيء يمتد إلى ما وراء حدود مظهره”، وكأن هناك روحًا في المادة والأشياء الجامدة تقع عليها عين الفنان بحدسه والهامه وما بعد متاهات التأمل؛ “ما الذي ينبغي عليّ أن أحبه إن لم أحل اللغز الغامض؟”، هذا ما عبّر عنه أيضًا الرسام الإيطالي تشيركو الذي رسم في لحظات التجلي القصوى، بعيدًا عن الصور المنظورة.
انشغل الطبيب النفسي السويسري الأصل ومؤسس مدرسة التحليل النفسي الجمعي كارل غوستاف يونغ (1875-1961)، على امتداد فترات حياته بدراسة النفس البشرية، من خلال منهج التحليل النفسي والدراسات الثقافية والدينية والأحلام التي كان له رأي مختلف عمن سبقه فيها، وقد طوّر مفاهيم جديدة في علم النفس.
ربط يونغ عالم الأحلام، ليس فقط بكبت الرغبات اللاواعية نتيجة ما يعيشه الإنسان من ضغوطات حياتية وأحداث مرتبطة بالطفولة، بل بالتجارب البشرية السابقة بمعنى أن رموز الحلم وتجلياته هي عبارة عن تراكمات مشتركة بين البشر على امتداد التاريخ الإنساني القديم والمعاصر على حد سواء. وعوض أن يعتبرها رمزًا ذات طابع جنسي صرف، ربطها بأنماط متكررة ومتشابهة بين البشر في مختلف الأمكنة والأزمنة.
لقد فهم يونغ سيكولوجيا البشر، وقد أولى عالم اللاشعور أهمية كبرى وربطه بالأنا العاقل من خلال نسق من الرموز التي تتجلى عبر الأحلام، التي اعتبرها بمثابة مستشار للوعي. وكي يعيش الإنسان سعيدًا ومرتاحًا ليس عليه سوى فهم الإيحاءات والحلول القادمة من عالم اللاوعي. ذلك العالم الذي يمتلك إمكانات هائلة من الطاقة الروحية والحقيقة الواضحة. ولحلّ المشكلات ليس على الإنسان سوى التواصل مع أحلامه وخلق علاقة واعية مع الجزء الروحي من النفس.
وبالنسبة لليونغيين، فإن تفسير الحلم سواء من قبل المحلل أو الحالم، هو عملية متكاملة وتجربة حقيقية لا تنطبق عليها قاعدة مطلقة أو محددة. فهي ليست مسألة مرتبطة بالسحر أو المصادفة، بل بالقدرة على تحقيق التواصل بين الوعي واللاوعي وما بينهما من رموز مقنعة تحتاج إلى تفسير وتوضيح لتسير الحياة كنهر من المصادفات الصادقة.
“إن أشد أعدائك قابع هناك في أعماق نفسك”- يقول يونغ، فهل الأحلام مركز الكون بالنسبة للإنسان ومفتاح التردد للحالات الشعورية الكامنة خلف الوعي والمنطق؟ بحسب اليونغيين نعم، هي القياس المنطقي الوحيد لاستيعاب الحقيقة الشاملة. فالإنسان يصنع رموزه باللاشعور على شكل أحلام، والتي تكون بمثابة تعويض في حياتنا النفسية، وتعتبر أيضًا نوعًا من الوحي الذي يقود الفرد إلى النمو الثقافي والأخلاقي. وهي نقطة التعارف الفردية بين الوعي واللاوعي، والتكيف بينهما يحدد راحة الإنسان وسعادته القصوى، وغايته في الوصول إلى السلام الداخليّ وفلسفته الخاصة والمتمثلة بالثراء وتكملة الذات عن طريق الذات. فالحلم رسالة ومفتاح ورمز وتوقع ومعرفة للنفس بهدف الاكتمال والعطاء والتفرد.
“كي يعيش الإنسان سعيدًا ومرتاحًا ليس عليه سوى فهم الإيحاءات والحلول القادمة من عالم اللاوعي. ولحلّ المشكلات ليس عليه سوى التواصل مع أحلامه وخلق علاقة واعية مع الجزء الروحي من النفس”
من أهم إصدارات يونغ في مجال علم النفس: “الإنسان وأنماط النفس”، “التحليل النفسي”، “أزمة الروح في العالم الحديث”، “أنتوني وصورة الفرد”، و”علم النفس والدين”. ولعل العامل المشترك بين كتبه تنبع من أفكاره غير النمطية، وقدرته على تخيير الإنسان على الاعتراف بمرضه، وتفسير العلامات التي تقابله والإيمان بالحدس. وقد ربط عالم اللاشعور والعقل الباطن مباشرة بمثل هذه الرموز. وأبرز ما عالجه فكرة اللاوعي الجمعي، والذي يتمثل من خلال الظواهر المشتركة بين الناس في مختلف الثقافات والحضارات، والتي بدورها تعتبر سببًا في تفشي الأمراض والوساوس والقلق المفرط. لذلك وجد يونغ أنه من الضروري عدم إهمال الروح نتيجة التطور الذي يشهده العالم إن كان على مستوى الأفكار أو الوقائع.
اهتم يونغ أيضًا بكل ما يتعلق بالأساطير الدينية، ومدى تأثير الدين على الجماعات، وقد قارب هذه الرموز من خلال التحليل النفسيّ. وتوسع في تفسير الجزء المتواري أو المظلم من الشخصية وهو ما أطلق عليه مصطلح الظل، معتبرًا أنه على كل إنسان الغوص في هذا الجانب والاعتراف به، كي تنمو النفس بطريقة صحية وصولًا إلى التكامل واستكشاف الذات اللاواعية ومدلولاتها الكاملة.
إن فكرة الظل تلعب دورًا حيويًا في علم النفس التحليلي، فالظل الذي يلقيه العقل الواعي للفرد يحوي جوانب مخفية، قد تكون غير مستحبة وقد تكون في أحيان كثيرة مستحبة كالغرائز السوية والدوافع الخلاقة. فالأنا والظل يرتبطان ترابط التفكير والشعور. هذا التكامل بين مختلف جوانب الشخصية يحدد نزعة الأفراد لجهة تشكل السلوكيات والأخلاق والأفكار، وبالتالي التوجه المستقبليّ وفقًا للرموز الذهنية سواء أكانت خلاقة أو مدمرة. واعتبر يونغ أن الحسد والشهوة وغيرهما من الرذائل هي الوجه السلبي الأسود للّاشعور، أو الروح السفلية وهي أصل الشر ودافعها التدمير وحده.
إن هذه المفاهيم اليونغية تحتاج إلى الكثير من البحث والتجارب للإجابة عن الأسئلة المتراكمة، فهي فرضيات قابلة للدحض، لكنها تتحلى بقوة في الأنماط الفنية والأدبية، وكذلك فإن مفهوم التزامنية أفاد العلماء خاصة في مسألة انقراض بعض الكائنات.
“قد يأتينا السلام في النهاية، لكنه لن يأتي حتى يفقد النصر والهزيمة معناهما”- هذا ما قاله يونغ، ومن الواضح أن حياة البشر وعلى امتداد التاريخ، حياة عبثية لم تستطع أن تضبطها القوانين والأديان بالكامل. فالإنسان عبارة عن مجموعة أضداد وتناقضات وغرائز، ولادة وموت، حزن وفرح؛ مجموعة مصطلحات تتصارع في جسد تتناحر فيه الأفكار والأرواح المتعددة، وما من أدوات تجريبية أثبتت قدرتها على فهم الذات طالما الأمر سيتعلق بنهاية حتمية ورحم من تراب. لذلك فإن العاطفة والعقل الباطن والشعور كلمات زادت من فقرها الحضارات والماديات، إذ حلّ مكان الخوف من مظاهر الطبيعة وعواء الحيوانات والنوم في العراء، العصاب والقلق والرهاب والنرجسية.
لقد تأثرت مختلف الأبحاث الحديثة بأعمال يونغ، حتى لو لم يتم تفسيرها عقلانيًا، لكنها فتحت الطريق أمام الكثير من العلوم وخاصة علم البيولوجيا. ولأن قدر الإنسان أن ينازع فإنه يحلم سائرًا في عصر بصيرته وسائل التواصل وما يقدمه المؤثرون من شطحات نفسية غير ناضجة أو مبنية على المنطق، فالقصص لا تتشابه والتعميم ليس لصالح المرضى ولا الأصحاء النفسيين.
ومن المؤكد أن الإنسان رمز محيّر، لم تسيطر عليه لا الطبيعة ولا السماء ولا الأديان، إنه الابن الضال للتراب، وربما هذا ما قصده يونغ حين قال: “لا يمكن استئصال غرائز الإنسان القتالية، لذلك لا يمكن تصور حالة من السلام المطلق”.