–
قد يكون عنوان المقال مفاجئاً لكثيرين، بمن فيهم صاحب هذه السطور، لا لأنه يُقدم حكماً مسبقاً على واقع لم يتحقّق بعد فحسب، بل أيضاً لأن مجرّد طرح هذا الاحتمال يُشكّل أزمةً (وخللاً) في الوعي السياسي، الوطني القومي السوري. غير أنه وفق معطيات السياسة التي تقوم على البراغماتية والقوة من جهة، ومعطيات الواقع القائم اليوم بين إسرائيل وسورية من جهة أخرى، يجعلنا ننطلق في أيّ قراءة مستقبلية لأيّ اتفاق بين سورية وإسرائيل انطلاقاً من هذين المعطيَين.
أكّد عزمي بشارة أكثر من مرّة أن إسرائيل تنطلق في سلوكها السياسي والعسكري تجاه الفلسطينيين والعرب من منطلق القوة، والقوة وحدها كفيلة بجعل العرب يقدّمون التنازلات طواعيةً. وقد بيّنت السنوات الماضية صحّة رأي بشارة، فلماذا تختلف المقاربة الإسرائيلية اليوم مع سورية؟… من خلال الواقع في سورية اليوم، يمكن القول إن الرئيس أحمد الشرع في وضع لا يحسد عليه، فهناك عجز حادّ في ميزانية الدولة يجعلها غير قادرة على الوفاء بأبسط مستلزماتها تجاه المواطنين؛ عقوبات اقتصادية حادّة مفروضة عليها تحول دون التعافي الاقتصادي؛ احتلال إسرائيل محافظة القنيطرة، وتوغّل في محافظة درعا وإنشاء مواقع قيادية عسكرية في نقاط عدّة، فضلاً عن سيطرة إسرائيلية على قمّة جبل الشيخ الاستراتيجية، ونشر وحدات عسكرية في الجغرافية الجنوبية لسورية: الفرقة فارا، والوحدة الاستخباراتية التابعة للواء الجولان 474، ولواء هحاريم (لواء الجبال)، وحدة الكوماندوز (شلداغ)؛ سيطرة إسرائيل على أبرز المسطّحات المائية والسدود (المطرة والشيخ حسين وسحم والوحدة ورويحينة وبريقة)، وهو ما يشكّل تهديداً للأمن المائي والغذائي السوري؛ تدخّل إسرائيلي سافر هو الأول من نوعه في الشأن الداخلي السوري، وإعلان إسرائيل نيّتها بدعم مكوّن من مكوناتها الاجتماعية في وجه السلطة الجديدة.
ليس في الاتفاق المُتوقع تنازل سوري عن الجولان وعن إنهاء ضمه إلى إسرائيل، فهذا خارج المُفكّر فيه، ولا يستطيع فعله أيّ أحد، فتنازل كهذا يشكّل انتحاراً سياسياً
دفعت هذه المعطيات الشرع إلى إدراك أن انتقال سورية من القوة إلى الفعل، أو من مرحلة الستاتيكو إلى مرحلة الفعل في بناء الدولة، وتفعيل المنح المالية الدولية، لن يحدث من دون المرور بالنفق الأميركي، وهو نفق ينتهي بالضرورة في إسرائيل. غير أن المسألة ليست هنا، فالتوجّه نحو الولايات المتحدة وإسرائيل للتوصّل إلى اتفاق سلام ليس بالأمر الإشكالي سياسياً، وإنما الإشكال في طبيعة الاتفاق المُرتقب.
لماذا تُقدم إسرائيل على اتفاق سلام مع سورية في ظلّ اختلال موازين القوة الهائل بينهما، وطالما لا توجد تكلفة سياسية وعسكرية واقتصادية لاستمرار بقائها في الجنوب السوري، خصوصاً في الجولان؟… لن تُقدم إسرائيل على اتفاق مع الشرع إلا إذا حقّق لها مصالحها الاستراتيجية، ولا مصلحة كبرى لها إلا البقاء في الجولان، من حيث إنه هضبة استراتيجية من الناحية العسكرية، وخزّان مياه في منطقة تشهد تراجعاً في المخزونات المائية.
بناءً على ما تتناوله وسائل الإعلام الغربية والعربية، وعلى تصريحات مسؤولين أميركيين وإسرائيليين، ثمّة قرار أميركي بضرورة إجراء اتفاق سلام بين سورية وإسرائيل، لكنّ طبيعة هذا الاتفاق لا تزال غامضةً بسبب التعقيد الاستراتيجي للجولان المحتل، غير أننا يمكن الانطلاق من ثابتين اثنين: الأول، ليس في الاتفاق المُتوقع تنازل سوري عن الجولان وعن إنهاء ضمه إلى إسرائيل، فهذا خارج المُفكّر فيه، ولا يستطيع فعله أيّ أحد، فتنازل كهذا يشكّل انتحاراً سياسياً، ليس للشرع وسلطته فحسب، بل لسورية الدولة والمجتمع، فالجولان عنوان رئيس لوحدة الدولة والمجتمع في سورية. أمّا الثابت الثاني، فلن تنسحب إسرائيل من الجولان وتعطيه لدمشق بهذه السهولة، لا في المدى القريب، ولا في المدى المتوسط. لكن بين الثابتَين النقيضَين هذَين، ثمّة مساحة واسعة لا يمكن ردمها إلا بتحقيق شروط الطرفَين، وهي مسألة صعبة للغاية.
بالنسبة إلى الشرع، تركّز المقاربة السورية في أولوية الاتفاق الأمني، عبر وقف التدخّل العسكري والأمني الإسرائيلي في سورية، والانسحاب من الأراضي كافّة التي دخلت إليها إسرائيل بعيد سقوط نظام الأسد، مع التشديد على اتفاقية فكّ الاشتباك بين الجانبين لعام 1974، وضرورة اعتراف إسرائيل به. من وجهة نظر الشرع، الاعتراف الإسرائيلي بالاتفاقية يعني الاعتراف بسورية الجولان وفق الشرعة الدولية. في هذا السيناريو، على الأغلب ستترك مسألة مصير الجولان إلى وقت لاحق بسبب تعقيدها الاستراتيجي. بالنسبة إلى إسرائيل، مسألة الانسحاب من الأراضي السورية التي دخلتها بعيد سقوط النظام هو الجانب الأسهل في المسألة، فعملياً لا وجود لجيش وقوات عسكرية سورية قادرة على أن تهدّد إسرائيل.
المسألة الحيوية بالنسبة إلى إسرائيل، هي أرض الجولان، وهنا تكثر التسريبات الإعلامية (بعضها مقصود) عن مصير الجولان من خلال منطقة محايدة بإدارة مشتركة، وتسليم الجولان لسورية على دفعات زمنية طويلة، تتبع كلّ دفعة ارتقاءً في مستوى العلاقات السياسية والاقتصادية، أو استئجار الجولان لـ 99 عاماً، أو جزء منه.
كثيرة السيناريوهات المحتملة، وفي هذه الاحتمالات كلّها، لا تنازل سورياً عن الجولان نظرياً، ولا إعلان إسرائيلياً رسمياً بعدم التنازل عن الجولان. وبناءً عليه، لم تعد مقولة الأرض مقابل السلام صالحةً في الحالة السورية، كذلك لا يمكن تحقيق مقولة السلام مقابل الأرض، والحلّ بين هذا وذاك، وفق ترتيبات أمنية جديدة تكون لصالح إسرائيل. … ولا يقتصر الاتفاق السوري ـ الإسرائيلي المُتوقع على مسألة الأرض، على الرغم من جوهريتها في الاتفاق، بل للمسألة وجه سياسي، أو ربّما استراتيجي، يتعلّق بموقع سورية ودورها مستقبلاً تجاه القضية الفلسطينية، القضية التي لا تقلّ أهميةً عن قضية الجولان. من الواضح أن سورية الجديدة انتقلت إلى المربع الأميركي الأوروبي الخليجي من ناحية الجغرافية السياسية، وما يعني ذلك من قبول سورية للموقف العربي الذي تمثّله السعودية بضرورة اعتراف إسرائيل بالدولة الفلسطينية ووقف الحرب على غزّة. لكن هذا الموقف بالنسبة إلى السوريين قد يكون غير كافٍ، لأنه عملياً يعني التخلّي تماماً عن دعم القضية الفلسطينية، إلا على مستوى المنابر السياسية الدولية، وهي منابر في يد الولايات المتحدة، وبالتالي لا تأثير عملياً لها.
لا يقتصر الاتفاق السوري ـ الإسرائيلي المُتوقع على مسألة الأرض، بل للمسألة وجه سياسي، يتعلّق بموقع سورية ودورها مستقبلاً تجاه القضية الفلسطينية
خلال سنوات حكمه، أصرّ حافظ الأسد على أن الأراضي السورية والأراضي الفلسطينية المحتلة لعام 1967 متداخلة، وعلى أن أيّ اتفاق مع إسرائيل حيال الجولان يجب أن يتم عبر قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة (242 و338)، وهو ما رفضته إسرائيل جملةً وتفصيلاً، لأن ذلك سيشكّل سابقةً قانونيةً قد تمتدّ إلى اتفاق مقبل مع الفلسطينيين، ولهذا نفّذت إسرائيل كلّ اتفاقياتها وانسحاباتها من الأراضي العربي، إمّا أحادياً كما حدث مع لبنان عام 2000، أو من غزّة عام 2005، أو باتفاقيات ثنائية، كما حدث مع مصر ومنظمة التحرير والأردن.
قد يرى بعض المعارضين السوريين (الثوريين) أن إصرار الأسد الأب على هذه المقاربة، إنما من أجل إبقاء الجولان بيد إسرائيل، كي تكون شمّاعةً أو أيديولوجية يستخدمها النظام شرعيةً له في الداخل السوري، نظاماً يشكّل “قلعة الصمود” في وجه إسرائيل. وعلى الرغم من صحة هذه المقاربة جزئياً، إلا أنه لا يمكن إنكار أن القضية الفلسطينية كانت محورية في سياسة دمشق عقوداً طويلة. وبغضّ النظر عن التفسيرات المسبّبة، رفضت سورية مع الأسد (الأب) التنازل عن أي شبر من الجولان، والتنازل عن دعم القضية الفلسطينية، فهل ستكون سورية الجديدة بعيدة عن القضية الفلسطينية؟ هل تسمح الجغرافيا السياسية بذلك؟ أم أن الواقع الحالي لسورية أضعف من أن تُعبّر عن حقيقة رأيها؟ هل ستتصالح سورية مع نفسها إذا ما تخلّت عن القضية الفلسطينية؟… هذا هو السؤال الكبير.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News