وسط أجواء سياسية معقدة، انطلق مؤتمر الحوار الوطني السوري في دمشق، ليكون أول محاولة رسمية لجمع مختلف الأطراف السورية على طاولة واحدة، ومناقشة مستقبل البلاد بعد نحو 14 عاماً من الثورة. وعلى الرغم من الطموحات الكبيرة التي علّقها البعض على هذا الحدث، إلا أن المؤتمر لم يخلُ من العقبات، بدءاً من تأخر الدعوات وسوء التنظيم، مروراً بالمقاطعات، وانتهاءً بالتساؤلات حول جدوى التوصيات ومدى إمكان تنفيذها على أرض الواقع.
يهدف المؤتمر إلى وضع خريطة طريق لمرحلة ما بعد الثورة، عبر ست لجان متخصصة تبحث ملفات العدالة الانتقالية، وإعداد الدستور، وضمان الحريات الشخصية، ومعالجة الأوضاع الإنسانية، وتفعيل دور المجتمع المدني، وصياغة المبادئ الاقتصادية المستقبلية. وعلى الرغم من أن المؤتمر كان مفتوحاً لمجموعة واسعة من الشخصيات السياسية والمجتمعية، إلا أن غياب أطراف رئيسية مثل القوى الكردية أثار تساؤلات حول مدى قدرته على تحقيق تمثيل شامل يعكس واقع الانقسام السوري. إلا أن مصادر في اللجنة التحضيرية أكدت لموقع “لبنان الكبير” شمولية المؤتمر بحضور واسع من ممثلي الكرد لا سيما منصة عفرين ورابطة الأدباء الكرد والعديد من المستقلين.
لم تخلُ التحضيرات من الثغرات، بحيث تم إرسال الدعوات إلى المشاركين قبل يومين فقط من انعقاد المؤتمر، وهو ما أدى إلى اعتذار 17 شخصية مدعوة بسبب ضيق الوقت. كما انتقد مراقبون اقتصار التمثيل على شخصيات محددة، معتبرين أن ذلك لا يعكس التنوع السياسي والاجتماعي في سوريا، وهو ما أفقد المؤتمر جزءاً من مصداقيته.
البيان الختامي: رؤية للمستقبل أم إعادة إنتاج للأزمة؟
اختتم المؤتمر أعماله بإصدار بيان ختامي شدد على وحدة الأراضي السورية ورفض أي محاولات للتقسيم، كما أكد ضرورة انسحاب القوات الأجنبية من البلاد وإدانة “التوغل الاسرائيلي” في الجنوب السوري. وكان من أبرز التوصيات:
– وضع إعلان دستوري مؤقت يتناسب مع متطلبات المرحلة الانتقالية.
– تأسيس مجلس تشريعي مؤقت يتولى السلطة التشريعية خلال الفترة الانتقالية.
– تشكيل لجنة دستورية لإعداد مسودة دستور دائم.
– تعزيز الحريات العامة وضمان حقوق الانسان من دون تمييز.
– ترسيخ مبدأ التعايش السلمي بين مكونات المجتمع السوري.
تحقيق التنمية الاقتصادية ورفع العقوبات المفروضة على البلاد.
مواقف متباينة حول المؤتمر ونتائجه
إلا أن البيان الختامي تعرّض لانتقادات من بعض المشاركين الذين رأى أنه لم يعكس بالكامل الجهود التي بذلتها اللجان المختلفة، بحيث تم اختزال أوراق عمل مطوّلة في بنود موجزة، ما أفقد بعض النقاشات قيمته الفعلية.
تباينت ردود الفعل على المؤتمر بين من اعتبره خطوة أولى في الاتجاه الصحيح، ومن رأى أنه لم يكن سوى محاولة لإضفاء الشرعية على الوضع القائم من دون تقديم حلول عملية. وقال عبد الوهاب عليوي، عضو مؤتمر الحوار الوطني، لموقع “لبنان الكبير”: “أجواء المؤتمر كانت إيجابية عموماً، ومستوى النقاش كان عالياً ومن دون سقف، بحيث ضمّت كل ورشة كفاءات وأصحاب اختصاص، وكان الحضور من جميع الأطياف والتوجهات الفكرية”.
وأضاف: “بعض المخرجات يمكن تطبيقه فوراً، مثل تشكيل لجنة لصياغة إعلان دستوري وتعزيز الحريات العامة، في حين أن بعض التوصيات الأخرى، مثل المبادئ الاقتصادية، مرتبطة بمدى السيطرة على الأراضي السورية كافة”.
وأشار عليوي إلى أن “المجلس التشريعي المؤقت سيكون في الغالب مكوناً من تكنوقراط، نظراً الى قلة عدد أعضائه، مع مراعاة تمثيل مختلف الأطياف السورية وبعض الشخصيات الاعتبارية، وقد يضم شخصيات من خارج المؤتمر، لكن اللجنة الدستورية ستكون بالكامل سورية”.
وأوضح أن “الوقت لم يكن كافياً لمناقشة كل القضايا بعمق، ولهذا طالبنا بأن يكون مؤتمر الحوار عملاً مستداماً، حتى نصل إلى مؤتمر وطني تنبثق عنه قرارات ملزمة، بحيث أن توصيات مؤتمر الحوار الحالي ليست إلزامية”.
وختم حديثه بالقول: “المؤتمر كتجربة أولى لا يمثل تطلعات كل الشعب السوري بعد حرب استمرت 14 عاماً، لكنه كان جيداً وخطوة كبيرة في الاتجاه الصحيح. والخطوة القادمة ستكون تشكيل مجلس تشريعي ولجنة دستورية، وهما الكفيلان بمراقبة أداء الحكومة، إضافةً إلى دور الرقابة الثورية في متابعة التنفيذ”.
الحوارات: اختلافات عميقة وتوصيات مكثفة
وقالت إحدى المشاركات في المؤتمر لموقع “لبنان الكبير”: “الديموقراطية كانت حاضرة ضمن النقاشات، إلى جانب قضايا العدالة الانتقالية، حرية الفكر والمعتقد، ودور النساء والشباب وحماية الطفولة. لكن البيان الختامي اختزل عمل اللجان إلى بضعة عناوين، ما أدى إلى انتقادات من بعض المشاركين الذي اعتبر ذلك غير منصف لجهود اللجان”.
وأضافت: “المؤتمر تضمن ستة محاور رئيسية، وقُسم كل محور إلى ثلاث لجان، بحيث شارك في كل لجنة أكثر من 50 شخصاً. استمرت النقاشات من العاشرة صباحاً حتى الرابعة والنصف مساءً من دون توقف، وتم تقديم وجبة غداء فردية لكل مشارك. كل لجنة رفعت مخرجاتها في حدود ثلاث صفحات، فيما تم دمج الأوراق الثلاث لكل محور في وثيقة واحدة تتألف من أربع صفحات. ومع ذلك، تم اختزال هذه المخرجات إلى ورقة واحدة فقط في البيان الختامي، وهو ما أثار اعتراضات واسعة”.
وأوضحت أن “الاختلافات الفكرية كانت واضحة في أكثر من لجنة، حيث ضمت النقاشات مندوبين من التيارات الاسلامية السلفية إلى العلمانيين، ما جعل الحوارات تتسم بالصراحة والمكاشفة. وعلى الرغم من ذلك، يُنظر إلى المؤتمر كخطوة مفيدة، إذ جمع السوريين من خلفيات مختلفة في القصر الجمهوري لمناقشة مستقبل البلاد”. أما عن المستقبل، فتوقعت أن يكون “مفتوحاً على الاحتمالات كافة، بحيث يبقى الأمر مرهوناً بجهود السوريين أنفسهم، وخياراتهم في المرحلة المقبلة”، على حد تعبيرها.
المجتمع المدني: بين المطالب والطموحات
برزت قضية المجتمع المدني كأحد المحاور الأساسية في المؤتمر، حيث طالبت لجنة المجتمع المدني بإنشاء هيئة وطنية مستقلة تشرف على عمل المنظمات غير الحكومية، بدلاً من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، التي كانت تتحكم سابقاً في منح التراخيص. كما أوصت اللجنة بضمان استقلالية النقابات عن الحكومة، وتحديد فترات قيادتها بمدة لا تزيد على ستة أشهر.
ما بعد المؤتمر: هل هو بداية حل أم محطة أخرى؟ على الرغم من كونه أول محاولة لجمع مختلف الأطراف السورية، إلا أن المؤتمر يواجه تحديات كبيرة في ترجمة توصياته إلى واقع ملموس. يبقى نجاحه مرهوناً بمدى التزام الجهات الرسمية بتطبيق مخرجاته، خصوصاً في ما يتعلق بتشكيل المجلس التشريعي المؤقت ولجنة الدستور. ولكن يبقى السؤال مفتوحاً: هل سيكون هذا المؤتمر نقطة تحول حقيقية، أم مجرد محطة أخرى في أزمة لا تزال تبحث عن حل؟