الذين يعرفون أيمن أصفري عن قرب يؤكدون أنه من الأشخاص الذين يُعوَّل عليهم للعب دور كبير في مستقبل سوريا دورا يشبه بشكل أو بآخر الدور الذي لعبه رفيق الحريري في لبنان.
في انتظار نهاية سعيدة لحقبة مظلمة
لم يأت الحديث عن إمكانية طرح اسم أيمن أصفري لتشكيل حكومة سورية جديدة في الأول من مارس، من فراغ. وقد يشكل تكليفه بالمهمة الفارق بين فشل الحكومة السورية الجديدة ونجاحها. ولم يُخطئ من لقب الأصفري بـ”حريري سوريا”، في مقارنة بينه وبين رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري الذي اغتيل في 14 فبراير 2005.
كلاهما ولد في بلدة بعيدة عن العاصمة؛ رفيق الحريري الذي وُلد عام 1944، وشغل منصب رئيس وزراء لبنان خمس مرات، ينحدر من مدينة صيدا جنوب لبنان. وأيمن أصفري وُلد في محافظة إدلب شمال غرب سوريا عام 1958.
التشابه الأكبر مرجعه اختيار المهنة، حيث بدأ كل منهما مسيرته المهنية في دول الخليج العربي؛ اتجه الحريري، وهو في العشرينات من عمره، إلى السعودية للعمل في مجال المقاولات. وبفضل ذكائه وإصراره، أسس شركة “سعودي أوجيه” التي أصبحت من أكبر شركات البناء في الشرق الأوسط.
الأصفري اختار نفس المهنة، لكن سلك للوصول إليها دربًا أطول. وكانت أولى محطاته الولايات المتحدة، حيث تابع دراسته ونال درجة الماجستير في الهندسة المدنية من جامعة “بنسلفانيا” عام 1980. بعدها توجه إلى سلطنة عُمان ليبدأ مسيرته المهنية في مجال المقاولات، ثم أصبح شريكًا رئيسيًا في شركة “بتروفاك” المتخصصة في خدمات الطاقة. وهو يشغل حاليًا، منصب الرئيس التنفيذي لمجموعة “فينتيرا” التي تعمل في مجال طاقة الرياح البحرية. كما أنه عضو في مجلس أمناء “الجامعة الأميركية في بيروت”، ومجلس إدارة مؤسسة “كارنيغي للسلام الدولي” في واشنطن، وعضو في لجنة “تشاتام هاوس” (المعهد الملكي للشؤون الدولية) في لندن.
لا أحد في سوريا يمكنه الادعاء، أن الفضل يعود إليه وحده في إسقاط حكومة الأسد. إنه جهد مشترك شاركت فيه معظم أطياف الشعب السوري، بمن فيهم الذين هُجٍّروا وغادروا البلاد مكرهين
وإن كان قطاع الأعمال والمقاولات قد جمع بين الاثنين، إلّا أن السياسة فرقت بينهما، هذا ما يبدو للوهلة الأولى، لنكتشف بعد التدقيق، أن السياسة لعبت دورًا في حياة الاثنين.
بدأ اهتمام رفيق الحريري بالسياسة في أوائل الثمانينات، ودخل إليها من باب المقاولات، حيث لعب عام 1982 دورًا بارزًا في جهود إعادة إعمار لبنان. ثم أصبح أكثر انخراطًا في السياسة اللبنانية في منتصف الثمانينات، وبدأ في تقديم الدعم المالي والسياسي للعديد من الأحزاب والشخصيات اللبنانية. في عام 1992، تم تعيينه رئيسًا للوزراء لأول مرة، وهو المنصب الذي شغله عدة مرات بين عامي 1992 و2004.
من أبرز الأدوار التي لعبها الحريري دوره في إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية من خلال صياغة اتفاق الطائف، وكان له دور بارز في إعادة إعمار العاصمة اللبنانية بيروت.
انتهى دور الحرير الذي نجح في إعادة إنعاش لبنان، بتعرضه لعملية اغتيل بشع في 14 فبراير 2005. وهو ما أدى إلى اندلاع “ثورة الأرز” وخروج الجيش السوري من لبنان.
على الرغم من أنه لم يكن فاعلاً في السياسة بشكل مباشر في سوريا قبل عام 2011، إلا أن أيمن أصفري بات معارضًا لنظام الأسد بعد انطلاق الثورة السورية. وشارك في دعم الجهود الإنسانية، وفي تمويل “الخوذ البيضاء”، المعروفة أيضًا باسم الدفاع المدني السوري، وهي منظمة إنسانية تطوعية عملت في مناطق سيطرت عليها المعارضة في سوريا، تأسست عام 2013 وتضم حوالي 3000 متطوع سوري مدني. هدفت المنظمة إلى إغاثة المتضررين جراء الحرب الأهلية السورية وتقديم خدمات البحث والإنقاذ، والإسعافات الأولية، وإطفاء الحرائق، وإزالة الذخائر غير المنفجرة.
في يونيو 2023 أُطلق أصفري مبادرة منظمة “مدنية” (منصة لعدة منظمات مدنية سورية) في مؤتمر افتتاحي حضره أكثر من 150 مؤسسة مدنية سورية من مختلف القطاعات والمناطق الجغرافية، حيث التقى ممثلو منظمات المجتمع المدني، في العاصمة الفرنسية باريس، تحت عنوان “الأحقية السياسية للفضاء المدني السوري” في محاولة لجمع كافة الجهات الفاعلة المدنية تحت مظلة واحدة، بهدف استعادة الفاعلية السياسية، ولتقديم وفرض نظراء قادرين على لعب دور قيادي في صناعة القرارات المتعلقة ببلدهم.
وفي مارس 2024 أطلقت مؤسسات بحثية ومدنية سورية وغربية، مشروع “الإستراتيجية السورية” وكان اسم أيمن أصفري حاضرا، بالشراكة مع “المجلس الأطلسي” و”معهد الشرق الأوسط ” (مقرهما الولايات المتحدة)، و”المعهد الأوروبي للسلام” (مقره العاصمة البلجيكية بروكسل)، وتم رسم إستراتيجية واضحة تكون بمثابة خارطة طريق لحل الأزمة السورية، عبر إشراك صانعي قرار وفاعلين في الملف السوري في الدول المعنية بحل الأزمة في سوريا.
قبل أن يتم اختيار الشرع رئيسا، كتبت مقالا في هذه الصحيفة بعنوان: “أحمد الشرع رئيسا لسوريا.. لمَ لا”. اليوم أكتب لأقول: أيمن أصفري رئيس وزراء لأول حكومة تكنوقراط في سوريا.. لمَ لا
شهد الحدث الذي أتى بالتزامن مع الذكرى الـ13 لاندلاع الثورة في سوريا، حضور مسؤولين معنيين بالملف السوري، منهم باربرا ليف، مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، ونائبها إيثان غولديريتش، المسؤول عن الملف السوري في الخارجية الأميركية، وبريجيت كورمي، المبعوثة الفرنسية إلى سوريا، ونظيرها الألماني ستيفان شنيك.
وقال أيمن أصفري، خلال الندوة، إن “الأزمة السورية لم تعد في الواجهة،” داعيًا إلى ضرورة تخصيص إستراتيجية خاصة “ليس فقط للحل وإنما للمحاسبة أيضًا.” وعبّر أصفري عن الرغبة في وضع خارطة طريق تقوم على القرار الأممي 2254 لعام 2015.
بجهود مثل هذه لا يمكن اعتبار أصفري بعيدًا عن السياسة، خاصة إذا علمنا أن النظام السوري السابق كان قد أصدر مذكرة اعتقال ضده بتهمة “تمويل الإرهاب”.
رغم ذلك كله، هناك مصادر مقرّبة من أصفري تنفي أيّ احتمال لقبوله تشكيل الحكومة السورية المرتقبة، والتي نأمل ألا تصدق في النهاية وأن نرى حريري سوريا على رأس تشكيلة وزارية يمكن أن يثق بها العالم ويثق بها الشعب السوري.
آخر ما يريده السوريون هو حكومة مناصفة ترضي الطوائف، أو ترضي جماعات مسلحة.
لا أحد في سوريا يمكنه الادعاء، أن الفضل يعود إليه وحده في إسقاط حكومة الأسد. إنه جهد مشترك شاركت فيه معظم أطياف الشعب السوري، بمن فيهم الذين هُجٍّروا وغادروا البلاد مكرهين، وكانوا في غربتهم سفراء لبلدهم، ويرجع إليهم فضل كبير في توجيه أنظار العالم إلى ما يرتكب داخل سوريا من جرائم، وهو ما دفع دول العالم ومن ورائها المؤسسات الدولية لمساندة الجهود التي بذلتها المعارضة بمختلف أطيافها لإسقاط النظام.
زيارة أصفري لدمشق بعد سقوط الأسد، ولقائه مع أحمد الشرع وانفتاح مسؤولي الإدارة السورية الجديدة في سوريا على رجال الأعمال السوريين، أنعش هذا الحلم؛ حلم تشكيل حكومة يرأسها رجل أعمال يعيد إعمار سوريا كما أعاد الحريري يومًا إعمار لبنان.
الجنود لحماية الوطن، ورجال الأمن لتنفيذ القانون، والتكنوقراط ورجال الأعمال لتسيير الحكومة. هذا هو حلم السوريين، وهذا هو الوضع الطبيعي الذي يجب أن تكون عليه سوريا مستقبلا.
بهذا يكتب السوريون نهاية سعيدة، ليس فقط لفترة زمنية امتدت 14 عامًا هي عمر الثورة السورية، ولا 53 عامًا هي فترة حكم الأسد الأب والأسد الابن، ولا حتى لفترة حكم البعث الذي استمر 61 عامًا، بل نهاية سعيدة لفترة امتدت منذ أن كان الاستقلال عن الانتداب الفرنسي عام 1946، عندما بدأت سوريا في بناء نظامها السياسي الخاص، وتم وضع دستور جديد نص على أن سوريا جمهورية عربية ديمقراطية نيابية.
اليوم يختلف عن الأمس. اليوم، الرهان على تنامي الوعي بين الناس وعلى الانتشار السريع للمعلومات. لن يكفي العسكر دبابة تقف أمام مدخل مبنى الإذاعة والتلفزيون وبيان يتلوه ضابط جاهل من داخل المبنى، لتغيير الحكم
تأسيس حزبين سياسيين، الأول هو الحزب الوطني عام 1947 مثّل وجهاء دمشق، والثاني حزب الشعب عام 1948 على يد ناظم القدسي ورشدي كيخيا مثّل وجهاء حلب وحمص، لم يكن كافيا لحماية التجربة الديمقراطية الوليدة؛ سرعان ما واجهت سوريا سلسلة من الانقلابات المتتالية.
العصر الذهبي لم يستمر طويلًا، انتهى بتدخل العسكر في الشأن السياسي، لتشهد سوريا حقبة “الانقلابات العسكرية”. أولها عام 1949 بقيادة حسني الزعيم، تلاه انقلاب سامي الحناوي وأديب الشيشكلي..
اليوم يختلف عن الأمس. اليوم، الرهان على تنامي الوعي بين الناس وعلى الانتشار السريع للمعلومات. لن يكفي العسكر دبابة تقف أمام مدخل مبنى الإذاعة والتلفزيون وبيان يتلوه ضابط جاهل من داخل المبنى، لتغيير الحكم.
الذين يعرفون أيمن أصفري عن قرب يؤكدون أنه من الأشخاص الذين يُعوَّل عليهم للعب دور كبير في مستقبل سوريا، دور يشبه بشكل أو بآخر، الدور الذي لعبه الراحل رفيق الحريري في لبنان، فهو يحظى بدعم دولي كبير، وعلاقات قوية على أعلى المستويات. إضافة إلى ذلك، لن يسعى أصفري لملء جيوبه بالأموال، فهو “مدجج بالأموال اللازمة لإطلاق مشاريع ناجحة،” وكان قد تصدر قائمة أغنى رجال الأعمال في بريطانيا عام 2013، وفق ما نشرته مجلة “فوربس”. يضاف إلى ذلك حسه الوطني، الذي دفعه في فترة مبكرة، قبل عام 2011، للعمل على تنمية الإنسان السوري.
وكما اشتهر الحريري بأعماله الخيرية الواسعة، حيث قدم منحًا تعليمية لأكثر من 36 ألف طالب لبناني وساهم في دعم المتضررين من الحروب ومساعدة الفقراء، أنشأ أيمن أصفري مؤسسة خاصة بالبعثات العلمية للطلاب السوريين، على نفقته الخاصة، في وقت كان فيه اهتمام رجال أعمال سوريين تعاونوا مع النظام السابق، منصبّا على تأمين مصالحهم دون أيّ اعتبارات أخرى، وقصص الكثير منهم وطرقهم في جمع الأموال عن طريق تجارة المخدرات والفساد والابتزاز أصبحت معروفة.
التاريخ سيسجل للرئيس السوري أحمد الشرع، أنه الشاب الذي غادر دراسة الطب، ليقود عددًا محدودًا من المقاتلين استطاعوا إسقاط نظام الأسد القمعي، وحظوا بترحيب السوريين. وقد يسجل له التاريخ، أيضًا، وضع الأساس لأول حكومة تكنوقراط تنسي السوريين حقبة الانقلابات العسكرية وحكم البعث، وتنقذ اقتصاد سوريا المنهار.
هذا لن يكون مطلب الشرع وحده، بل هو مطلب يتفق عليه السوريون جميعًا.
قبل أن يتم اختيار الشرع رئيسا، كتبت مقالا في هذه الصحيفة بعنوان: “أحمد الشرع رئيسا لسوريا.. لمَ لا”. اليوم أكتب لأقول: أيمن أصفري رئيس وزراء لأول حكومة تكنوقراط في سوريا.. لمَ لا.
